يتصفح المرء القسم الدولي في موقع صحيفة “نيويورك تايمز” ليوم أمس، السبت 18/5/2019؛ فيجد خبر الصدارة مخصصاً للانتخابات في أستراليا، ثمّ مادة عن احتمالات الإرهاب داخل مجموعة “المهاجرون” في بريطانيا، وثالثة عن خيبة أمل الصينيين في أمريكا كطرف تجاري، ثمّ انهيار فنزويلا من وجهة نظر أهل الاقتصاد… الخبر الإيراني (أنّ أوروبا تُبلغ واشنطن ألا يُحسب حسابها في أية مواجهة أمريكية مع طهران)، يأتي في الترتيب السابع، وبعد تقرير عن صفقة السلام في كولومبيا، وآخر عن الاقتصاد التركي.
ذلك مؤشر جدير بأن يؤخذ بعين الاعتبار، حتى إذا أصرّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على زيف أخبار هذه الصحيفة؛ إذْ كانت، وتبقى في الواقع، حاضنة أبرز التسريبات وأبكرها حول التسخين العسكري الراهن في الخليج العربي، وأسباب انتقال البيت الأبيض إلى مستوى دراماتيكي في حشد الحاملات والفرقاطات والقاذفات الستراتيجية. فهل يعني تراجع أنباء التوتر العسكري بين واشنطن وطهران أنّ السخونة أخذت تبترد تدريجياً، لتبقى في حدود التراشق الكلامي والمناوشات اللفظية، خاصة من جانب ضباط “الحرس الثوري” الإيراني؟
إنه في كلّ حال لا يعني أنّ أيام التوتير، القصيرة نسبياً في الواقع، انقضت من دون أن تسدي خدمات ملموسة لأولئك الذين تقصدوا ضبط إيقاعها على هذا النحو، تحديداً ربما، وفي واشنطن أكثر بكثير من طهران عملياً. ففي المقام الأوّل، ليس مبالغة الافتراض بأنّ أمثال جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي، خرجوا من الاختبار بحصيلة ملموسة حول الحدود القصوى لردود الأفعال الإيرانية، عسكرياً أوّلاً وفي مياه الخليج تحديداً، ثمّ ستراتيجياً على مستوى تصعيد التهديد بالإنابة (عن طريق الميليشيات التابعة) ضدّ القوات الأمريكية في العراق، وضدّ جيش الاحتلال الإسرائيلي في الجولان وجنوب لبنان. وكانت الحصيلة، ببساطة واختصار: جعجعة بلا طحن!
كذلك اختُبرت جيوب إيران المختلفة في المنطقة، وكيف يمكن أن تدخل على خطّ التوتير بين واشنطن وطهران، على نحو غير لفظي، هذه المرّة؛ وما إذا كانت قمينة بتولّي مواجهات عسكرية فعلية بالإنابة، تربك انتشار القطعات العسكرية الأمريكية في المنطقة من دون أن تستدعي تورطاً إيرانياً عسكرياً مباشراً. هنا أيضاً، اقتصر الاختبار على “تخريب” ناقلات النفط الراسية في الفجيرة، واستهداف بعض المنشآت النفطية السعودية بطائرات مسيّرة؛ وتلك حصيلة رمزية، رغم ما انطوت عليه من اختراقات أمنية غير مسبوقة.
وقد يكون الاختبار الأبرز لخيارات الإنابة هو ذاك الذي شهده العراق، ليس بوصفه سلّة النفوذ الإيراني الإقليمية الأولى في المنطقة، فحسب؛ بل كذلك لأنّ الميليشيات التابعة هناك تخضع لإدارة “الحرس الثوري” مباشرة، في نماذج كثيرة؛ ولأنّ بعضها، ثانياً، مندمج قانونياً في تركيب الجيش العراقي النظامي؛ ولأنّ الكثير منها لا يعمل على نطاق العراق وحده، ثالثاً، بل هو منتشر خارجه كذلك. ولقد اتضح، بأسرع مما كان يُظنّ في الواقع، أنّ الاجتماع السياسي العراقي غير مهيأ لفتح البلد ساحة اصطراع إيرانية ــ أمريكية، في ضوء إلى الاشتباك المعقد لتواجد البلدين على أرض العراق؛ وأنّ أحد أبرز عناصر ذلك الاجتماع كان موقف حوزات شيعية كبرى، شاءت النأي بنفسها عن التصعيد العسكري رغم بقائها في حال جلية من التعاطف مع طهران ومناوءة واشنطن.
ويبقى أنّ مبتدأ التسخين كان الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية ضدّ طهران، وأنّ أحد أهدافها غير المعلَنة كان استدراج القيادة الإيرانية إلى فخّ التراجع عن بعض بنود الاتفاق النووي، الأمر الذي يدقّ إسفيناً في علاقات طهران مع رعاة ذلك الاتفاق. من نافل القول، إذن، أنّ تراجع أخبار الاحتقان العسكري إلى مراتب خلفية ليس سوى علامة، بين أخرى مقبلة أغلب الظنّ، على أن جرعات الابتراد أو التبريد باتت سيدة اللعبة.
القدس العربي