لم يكن حدثا عابرا للعراقيين وهم يتابعون قيام الولايات المتحدة وألمانيا ودول أخرى، بسحب أغلب موظفيها من سفاراتها في بغداد ومستشاريها العسكريين، وتوجيه رعاياها بعدم السفر إلى العراق جراء المخاطر والتهديدات المتوقعة ضمن تداعيات تصاعد الصراع الأمريكي الإيراني ووصوله إلى حافة المواجهة الشاملة.
وتعيد هذا الخطوات والإجراءات للدول الغربية، ذكريات أجواء القصف الأمريكي للعراق في مناسبات سابقة وخاصة بعد احتلال الكويت عام 1991 وهو سيناريو مكرر عندما سحبت الولايات المتحدة والدول الغربية رعاياها والمفتشين الدوليين من العراق وحشدت قواتها في المنطقة، تمهيدا لبدء الغزو عام 2003 حيث تتسارع الأحداث الآن في مسار تدهور العلاقات الأمريكية الإيرانية لتقترب من الصدام الفعلي، مع قناعة تامة لدى العراقيين بأن بلدهم سيكون حتما إحدى ساحات المواجهة المتوقعة بين الطرفين.
وأكد مسؤولون أمريكيون أن سحب دبلوماسييهم من العراق سببه معلومات استخبارية جديدة عن “تهديد وشيك وحقيقي” على “صلة مباشرة بإيران” و”تقف وراءه ميليشيات عراقية بقيادة الحرس الثوري الإيراني”. كما أصدرت السفارة الأمريكية في بغداد، بياناً دعت فيه مواطنيها إلى عدم السفر للعراق، بالتزامن مع زيادة حشود السفن الحربية وحاملة الطائرات الأمريكية في المنطقة ووضع القوات الأمريكية في العراق والمنطقة في حالة تأهب قصوى. والإجراء ذاته اتخذته دول أخرى مثل هولندا وألمانيا التي سحبت مستشاريها العسكريين المتواجدين مع الجيش العراقي والبيشمركه.
وزادت مخاوف العراقيين وشعوب المنطقة بعد تصاعد الاعتداءات على السفن التجارية للإمارات والسعودية في الخليج العربي مؤخرا إضافة إلى تعرض منشآت نفطية سعودية إلى هجمات بطائرات دون طيار، في ما يبدو انها “رسائل إيرانية” بأن المواجهة إذا ما وقعت ستكون شاملة في المنطقة.
وفي ظل المخاوف من تداعيات اندلاع النزاع، تصاعدت في العراق دعوات لمواجهة الحالة المتوقعة، ومنها إعلان حال الطوارئ لمواجهة التداعيات والتطورات على الساحة العراقية، فيما دعت اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي، وزارة النقل لاتخاذ إجراءات احترازية سريعة لحماية الموانئ والأسطول البحري العراقي، مشددة على ضرورة البحث عن خطط للطرق البديلة للنقل وحركة التجارة في حال نشوب أي تصادم حربي في المنطقة. وأعلن وزير النفط ثامر الغضبان، اتخاذ وزارته إجراءات احترازية في حال تعرض تصدير النفط عبر موانئ الخليج العربي لمشاكل أو معوقات، موضحا “لدينا خطة لمد أنبوب جديد من كركوك إلى تركيا يوازي القديم، وأن تركيا أبدت رغبة بزيادة الكميات المستوردة من النفط الخام العراقي”. كما برزت دعوات لتهيئة مخيمات نازحين جديدة لاستيعاب الهاربين من المعارك وقصف المدن.
ويسود توجس حقيقي في الشارع العراقي من تداعيات أمنية لأي نزاع أمريكي إيراني على الأوضاع الداخلية في البلد الذي أنهى لتوه حربا مدمرة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”. وأكدت مصادر عسكرية أن القيادات العسكرية في الجيش وجهت مقاتليها لرفع مستوى الجاهزية وأخذ الحيطة والحذر من استغلال الخلايا النائمة لتنظيم “داعش” اندلاع النزاع لرفع مستوى هجماتها الإرهابية في مختلف أنحاء البلاد.
كما أثار اندلاع اشتباكات في النجف سقط فيها قتلى وجرحى بين أنصار التيار الصدري وبعض قياداته المتهمة بالفساد، مخاوف من استغلال بعض التنظيمات المسلحة أجواء الصراع الأمريكي الإيراني لنشر الفوضى وتصفية الحسابات وإعادة الصراع الطائفي في العراق.
ولم تنجح تحركات الحكومة العراقية وسعيها لحل الأزمة، في تخفيف قلق العراقيين من تورط بلدهم في أي مواجهة أمريكية إيرانية، فرغم إعلان رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي، أنه أجرى ثلاث مكالمات هاتفية مع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بحث خلالها دور العراق في درء الخطر الذي يواجه المنطقة، إلا أنه أقر أن “الخلاف الإيراني الأمريكي ملف معقد” كما لم يقتنعوا بنتائج استقبال عبد المهدي، لوزير الخارجية الأمريكي في بغداد واجتماعه مع سفراء بريطانيا وألمانيا وفرنسا وتأكيده على الحوار لنزع فتيل الأزمة، لأنه كرر في تلك اللقاءات “أن العراق ليس ضمن منظومة العقوبات الأمريكية على إيران” وهو ما يعني اصرار حكومة بغداد على استمرار تحالفها مع طهران، حتى لو أثارت غضب واشنطن، ولذا فان نائب رئيس الوزراء السابق بهاء الأعرجي أكد أن “زيارة بومبيو إلى بغداد هي انذار أخير للعراق لوقوفه مع إيران”.
وفي تأكيد لارتباط الميليشيات بتطورات الصراع الأمريكي الإيراني، واصلت العديد من الشيعية المسلحة منها، عقد المهرجانات واللقاءات، للإعلان عن وقوفها مع إيران في أي مواجهة مع أمريكا، مع توجيه التهديدات ضد القوات الأمريكية الموجودة في العراق.
ويدرك المطلعون على أوضاع الإدارة الأمريكية أن هناك استحقاقات انتخابية قريبة في الولايات المتحدة، وان تحريك الحشود العسكرية الأمريكية الكبيرة نحو منطقة الخليج العربي والبحر المتوسط ووضع القوات في المنطقة في حال استعداد قتالي، يكلف الخزانة الأمريكية الكثير من الأموال، وبالتالي سيكون موقف الرئيس ترامب حرجا بمواجهة مبررات هذا التحريك ونفقاته إذا لم تقع المواجهة مع إيران أو حلفاءها ولو بشكل محدود. وهنا يكون الخوف من حتمية المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران مشروعا ومبررا، مع بديهية كون العراق ساحة المواجهة الأولى، فهل تكفي الإجراءات الحكومية الاحترازية لمواجهة العاصفة الآتية؟
القدس العربي