كشفت أحدث أرقام عن إجمالي حجم التبادل التجاري بين تركيا ومصر عام 2018 وصوله إلى مستوى تاريخي غير مسبوق وذلك على الرغم من تعاظم الخلافات السياسية بين البلدين وتشعبها إلى ملفات أخرى تتعلق بالخلاف على الغاز في شرقي البحر المتوسط والنفوذ في ليبيا والسودان بعد أن كانت محصورة في ملف الانقلاب العسكري على الرئيس المصري السابق محمد مرسي.
وحسب مصطفى آريغور القائم بأعمال السفير التركي في مصر فإن التبادل التجاري بين البلدين عام 2018 حقق رقماً قياسياً تاريخياً بلغ 5.24 مليار دولار، حيث بلغ حجم الصادرات التركية إلى مصر 3.05 مليار دولار، والواردات التركية من مصر 2.19 مليار دولار، حسب البيانات النهائية لهيئة الإحصاء التركية.
ويعتبر هذا الرقم أكبر بقليل من الذي وصل إليه حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2018 والذي بلغ 5.1 مليار دولار، أي في العام الذي سبق تفجر الخلافات السياسية بين البلدين عقب الانقلاب العسكري واعتراض تركيا على فض الاعتصامات بقوة السلاح وتنفيذ إعدامات بحق معارضين مصريين.
ومنذ تصاعد الخلافات عام 2013 قررت مصر طرد السفير التركي في القاهرة وخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي إلى مستوى القائم بالأعمال، وهو ما ردت عليه تركيا بخطوة مماثلة، ومنذ ذلك التاريخ لم تحصل أي لقاءات سياسية أو وساطات لاحتواء الأزمة بين البلدين باستثناء التحسن المتنامي في العلاقات الاقتصادية.
وعلى العكس من ذلك، توسعت الخلافات السياسية بين البلدين في الأشهر الأخيرة مع اشتداد التنافس الإقليمي بينهما في ظل وجود مصر في الحلف السعودي الإماراتي المناهض لتركيا، وظهر ذلك جلياً في ليبيا حيث تدعم القاهرة بكافة الطرق الجنرال خليفة حفتر الذي يهاجم العاصمة طرابلس للقضاء على حكومة الوفاق المدعومة من تركيا. وبالتزامن مع ذلك، تتسارع خطى مصر لتثبيت حكم المجلس العسكري في السودان الذي سيطر على الحكم في البلاد عقب الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير وإنهاء النفوذ التركي الذي وصل إلى مراحل متقدمة في العام الأخير، في حين تصدرت القاهرة في الأشهر الأخيرة النزاع مع تركيا على الغاز في شرقي البحر المتوسط.
لكن وبنظرة أوسع على العلاقات السياسية والاقتصادية لتركيا مع دول أخرى، يتضح أن مصر لم تكن حالة استثنائية وهي نتاج سياسة تركية متبعة في السنوات الأخيرة تتمحور حول ضرورة العمل بقدر الإمكان من أجل الحفاظ على العلاقات الاقتصادية بغض النظر عن الخلافات السياسية.
مع تعاظم التحديات والتنافس الإقليمي وارتدادات الثورات العربية انهارت نظرية “صفر مشاكل سياسية” التي حاول حزب العدالة والتنمية الحاكم تطبيقها وتحولت تركيا إلى طرف مباشر في أغلب أزمات المنطقة، وهو ما دفع الحزب لاعتماد سياسة أخرى تتمثل في ضرورة العمل قدر الإمكان على تحييد الخلافات السياسية عن الاقتصادية، وتعتبر العلاقات مع مصر أبرز نموذج لنجاح تطبيق هذه السياسة.
وتنطلق تركيا بهذه السياسة من مبدأ أن العلاقات الاقتصادية مرتبطة بدرجة أساسية بالقطاع الخاص وليس العام ومتعلقة بدرجة أساسية بمصالح الشعوب وتؤكد على ضرورة منع تضرر مصالح الشعوب المتعلقة بالاقتصاد ومستلزمات الحياة بالخلافات السياسية بين الحكومات.
وإلى جانب ذلك، لم تكن أنقرة أو القاهرة في رفاهية تحويل الأزمة السياسية إلى اقتصادية بين البلدين في ظل الصعوبات الاقتصادية الكبيرة التي مرت بها مصر، وتركيا بدرجة أقل، لا سيما وأن هناك ما لا يقل عن 200 مصنع وشركة تركية كبرى في مصر يستفيد منها بشكل مباشر عشرات آلاف الأيدي العاملة في مصر، وأعداد أكبر بكثير بشكل غير مباشر.
وعلى الرغم من النجاح اللافت في إيصال العلاقات الاقتصادية بين تركيا ومصر إلى مستوى تاريخي رغم الخلافات السياسية التي توسعت وتعمقت، إلا أن لا مؤشرات على إمكانية أن تساعد هذه على تحسين العلاقات بين البلدين خلال الفترة القريبة المقبلة.
وما زالت تركيا تشترط بدرجة أساسية حصول تغيير سياسي حقيقي في مصر يمكن أن يكون على شكل مصالحة وطنية توقف تهميش المعارضة ووصفها بالإرهاب إلى جانب وقف الاعتقالات السياسية والإعدامات للمعارضين من أجل التقارب مع النظام المصري الحالي، وهو ما لا يبدو وارداً في الأفق.
القدس العربي