في 19 أيار/مايو، قام أفرادٌ من المليشيات الشيعية في العراق بإطلاق صاروخ من شرق بغداد على المركز الدبلوماسي والحكومي في العاصمة المعروف بالمنطقة الخضراء. وعلى الرغم من أن القذيفة لم تُصب السفارة الأمريكية والمرافق العسكرية الأمريكية العراقية المشتركة بل سقطت بعيداً عنها، إلّا أن توقيت الضربة بعث برسالة لا لبس فيها مفادها أن الميليشيات الوكيلة لإيران تتمتع بحرية عملياتية مطلقة لتوجيه التحذيرات إلى الولايات المتحدة، متجاهلةً دعوات ضبط النفس التي تطلقها الحكومة العراقية. ولا ينبغي تضخيم هذه الحادثة التي لم تتسبب بأي وفيات، ولكنها تؤكد على ضرورة التركيزعلى مخاطر الميليشيات، ومواصلة توجيه رسائل رادعة قوية، وكذلك الاستعداد للعمل في ظل هذه الظروف من دون الاضطرار إلى إجلاء المزيد من الأفراد الأمريكيين.
الهجمات الأخيرة للجماعات التي تعمل لحساب إيران
وفقاً لحسابات البنتاغون، تسببت الأسلحة التي زودتها إيران بمقتل ما لا يقل عن 608 أمريكيين في العراق بين عامَي 2003 و 2011، وتشمل هذه الأسلحة أنظمة تنفرد بها إيران على غرار الصواريخ والعبوات الناسفة الخارقة والذخائر المرتجلة المدفوعة بالصواريخ، فضلاً عن القذائف الصاروخية وبنادق القنص من العيار الكبير. وفي حين همدت هذه الاعتداءات بعد عام 2011، إلّا أن المضايقات المدعومة من إيران عادت لاحقاً مع تزايد التوترات مع طهران في ظل إدارة الرئيس ترامب:
الهجوم الفتاك بالعبوات الناسفة الخارقة على القوات الأمريكية: في 1 تشرين الأول/أكتوبر 2017، لقي جندي أمريكي مصرعه بينما أصيب آخر بجروح جرّاء عبوة ناسفة خارقة. وخلُص التحقيق الذي أجرته الولايات المتحدة في الحادثة إلى أن الجهة التي نفّذت الهجوم هي ميليشيا مدعومة من إيران وذلك بعد وصول مهمة استشارة ومساندة أمريكية إلى “قاعدة سبايكر الجوية” التي يريد زعماء الميليشيا إخراج القوات الأمريكية منها.
التضييق على القنصلية الأمريكية في البصرة: في 29 أيلول/سبتمبر 2018، أُغلقت القنصلية الأمريكية في مدينة البصرة التي تعد مركزاً حيوياً في قطاع الطاقة، بعد تعرّض المجمّع لجولتين من القصف الصاروخي، الذي تعمّد بعدم التسبب بأضرار أو وقوع ضحايا. وسابقاً هددت الميليشيات المدعومة من إيران السكان العراقيين الذين تم تحديدهم على وسائل التواصل الاجتماعي بالتعامل مع القنصلية، كما اشتُبه بأن المقاتلين كانوا يستعدون لضرب مركبات القنصلية أثناء تجوّلها في البصرة.
الهجمات الصاروخية على المنشآت الدبلوماسية في بغداد: في أيلول/سبتمبر 2018، تعرّض مُجمّع السفارة الأمريكية في بغداد لجولتين من قصف تحذيري بظاهره، إذ بدا أن الصواريخ تعمّدت عدم إصابة الهدف على غرار ما حدث في البصرة.
الهجوم الصاروخي الذي أعقب الزيارة الرئاسية: في 27 كانون الأول/ديسمبر 2018، استهدف صاروخان من عيار 107 ملم مجمّع السفارة الأمريكية بعد يوم من زيارة الرئيس ترامب إلى “قاعدة عين الأسد الجوية” في الأنبار، دون التسبب في أي ضرر.
الهجوم الصاروخي المحبَط على “عين الأسد”: في 2 شباط/فبراير 2019، أحبطت القوات العراقية، انطلاقاً من معلومات وفرتها الاستخبارات الأمريكية، عملية كان ينوي منفّذوها إطلاق ثلاثة صواريخ من عيار 122 ملم على منشآت أمريكية في الأنبار.
الهجوم الصاروخي على “قاعدة القيارة الجوية”: في 12 شباط/فبراير، أُطلقت ثلاثة صواريخ من عيار 107 ملم على المنشآت الأمريكية في نينوى، وألقي القبض على أفرادٍ ينتمون إلى ميليشيا مدعومة من إيران لم يتم تحديد هويتها.
الهجوم الصاروخي على التاجي: في 1 أيار/مايو، أُطلق صاروخان من عيار 107 ملم على قاعدة التاجي العسكرية حيث يتولى عناصر أمريكيون تدريب أفراد مقرات الفرق العسكرية، وألقي القبض على اثنين من أفراد تنظيم «عصائب أهل الحق» الذي يعمل بالوكالة عن إيران.
النيران الصاروخية التي استهدفت المنطقة الخضراء: اقتصر الهجوم الذي وقع في 19 أيار/مايو على إطلاق صاروخ واحد من الطريق السريع الواقع على مقربة من “الجامعة التكنولوجية” في بغداد، وقد سقط هذا الأخير في ساحة استعراض عامة على بعد كيلومتر واحد شمالي السفارة الأمريكية، مما يشير بقوة إلى أنه تقصّد عدم إصابة الهدف. وجاء هذا الاعتداء مباشرةً بعد اجتماع طلب فيه الرئيس برهم صالح من كبار القادة العراقيين التعهّد بالتخلي عن النفوذ الأجنبي وتأييد الدعوة التي وجهتها الحكومة لمستشاري التحالف.
تهديدات متزايدة، خطر متزايد
تأتي الهجمات المتجددة في وقتٍ تتنامى فيه قدرات الميليشيات المدعومة من إيران في العراق ويصبح فيه الوجود الأمريكي أكثر عرضة للخطر. فمنذ انسحاب القوات الأمريكية عام 2011، طوّرت المليشيات قدرات هجومية أكثر تقدّماً، بما فيها صواريخ تكتيكية بعيدة المدى. وسابقاً استخدم وكلاء إيران صواريخاً غير موجهة وذخائر مرتجلة مدفوعة بالصواريخ وقصيرة المدى معروفة بـ”قذائف الهاون المرتجلة” وينهالون بها على القواعد الأمريكية من مسافة تصل إلى 12 كيلومتر. أما اليوم، وبعد سنوات من التسليح الإيراني للميليشيات بهدف محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، فقد أصبحت قادرةً على إطلاق صواريخ تكتيكية بعيدة المدى عن مسافة تبعد عشرات الكيلومترات وتتمتع بالدقة الكافية لاستهداف منشآت أمريكية فردية ضمن القواعد العراقية.
وإذا أقدمت طهران على خطوتها التالية ووفّرت النوع نفسه من الأسلحة الدقيقة التوجيه التي زوّدتها للمتمردين الحوثيين في اليمن (على سبيل المثال، صاروخ “بدر -1 بي”)، فستصبح الميليشيات العراقية قادرةً على استهداف أجزاء محددة للغاية من المنشآت الأمريكية بدقة ثلاثة أمتار. إذ يمكن إطلاق هذه الأسلحة من شاحنات مدنية ومن مسافات أطول بكثير من الصواريخ ذات عيار 107 ملم أو 122 ملم التي تستطيع القوات الأمريكية رصدها بينما لا تزال في طور التركيب. وقد أثبتت طهران قدرتها في القصف الدقيق البعيد المدى حين استهدفت الغرفة نفسها التي كان المعارضون الأكراد الإيرانيون يجتمعون فيها في «إقليم كردستان العراق» في 8 أيلول/ستمبر 2018.
فضلاً عن ذلك، تقدّمت التنظيمات الوكيلة لإيران خطوةً كبيرة في هذا الإطار باستخدامها الطائرات بدون طيار، إذ أصبح بالإمكان استخدام تلك المنظومات لمراقبة أنماط التحرك الأمريكي ضمن القواعد العسكرية وخارجها، أو تصويب اتجاه النيران أثناء القصف، أو إسقاط الذخائر على المنشآت الأمريكية (كما حدث في التنف، سوريا، في حزيران/يونيو 2017)، أو الاصطدام بالدفاعات الصاروخية (كما شوهد في اليمن).
وفي الوقت نفسه، أصبح أفراد القوات الأمريكية في العراق أكثر عرضة للخطر. فالمستشارون اليوم يعملون حالياً في مجموعة أكبر من القواعد بهدف مساعدة القوات العراقية على مكافحة الإرهاب بشكل أفضل في مداهمة خلايا تنظيم «الدولة الإسلامية» الموجودة في الأرياف انطلاقاً من المعلومات الاستخبارية. أضف إلى ذلك أن هذه القواعد عادة ما تكون صغيرةً، وتقع على مقربة من وكلاء إيران، وتبعد أقل من ساعتين بالسيارة عن الحدود الإيرانية، على افتراض أن يحاول عناصر الميليشيات يوماً ما اختطاف أفراد أمريكيين.
التوصيات في مجال السياسة العامة
نظراً للاستخبارات الوافرة والجازمة التي تملكها الحكومة الأمريكية في هذا الشأن، فهي على قناعة راسخة بأن إيران طلبت مؤخراً من الميليشيات العراقية أمثال «كتائب حزب الله» و «حركة حزب الله النجباء» و «عصائب أهل الحق» الاستعداد للدخول في صراع. ولربما صدر هذا الأمر تحسّباً للتصعيد الأمريكي في أعقاب أحداث الأسبوع الماضي التي بدت على أنها هجوم برعاية إيرانية على ناقلات النفط الخليجية ومنشآت خطوط الأنابيب، على الرغم من أن التقارير تشير إلى أن تنظيم «عصائب أهل الحق» كان يستعد لضرب القوات الأمريكية حتى قبل صدور هذا الأمر. ومهما كان الحال، ينبغي على واشنطن اتخاذ الخطوات التالية لترسيخ مكانتها في العراق قبل تفاقم التوترات مع إيران مجدداً:
مواصلة الرسائل الموجهة من كبار المسؤولين: حين قام وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو بزيارة خاطفة إلى العراق في 8 أيار/مايو، وجّه رسالةً قوية مفادها أن الولايات المتحدة ستمارس حقها في الدفاع عن النفس، إذا ما اعتدت عليها الميليشيات المدعومة من إيران. وهذا النوع من الانخراط أمر حيوي – فالعراق بحاجة إلى مُحاور أمريكي ثابت ورفيع المستوى وقادر على الاهتمام بالمسألة العراقية إلى أجل غير مسمى.
الاستمرار في الوضوح بشأن العواقب: بعد تلقي رسالة بومبيو، يبدو أن بغداد طلبت من إيران تجنب المزيد من العمليات ضد الأفراد الأمريكيين في العراق. ولكن بالنظر إلى القصف الصاروخي في نهاية الأسبوع المنصرم وسجلّ طهران الحافل بالمضايقات، يجب على واشنطن أن تستمر بالتشديد على هذه الرسالة. وإذا نفّذت الميليشيات في العراق ضربةً أسفرت عن وقوع ضحايا في صفوف الأمريكيين أو وقعت قربهم جداً فسببت لهم الخوف والاضطراب، يتعين على الولايات المتحدة استهداف الجماعة المسؤولة عن الهجوم من أجل الحفاظ على مصداقيتها. ولعل سوريا تشكّل مكاناً أقل استفزازاً لتنفيذ مثل هذه الضربات، وبذلك تتفادى الولايات المتحدة أي انتقادات قد تتعرض لها بسبب تنفيذ الضربة على الأراضي السيادية العراقية (غالباً ما تعمل الجماعات المدعومة من إيران في كلا البلدين). ويترتب عن ذلك التحقق عن كثب في المعطيات المتعلقة بمسؤولية الأحداث لأن بعض المليشيات قد تسعى إلى توجيه اللوم خطأً على الجماعات المعادية لها.
الحذر من الأزمات المتكررة: خلال تسعينيات قرن الماضي، عانت الولايات المتحدة الكثير من أزمات “الخداع ثم التراجع” حيث عمل صدام حسين على عرقلة عمليات التفتيش التي كانت تقوم بها الأمم المتحدة، ودفع واشنطن إلى تعزيز قواتها، ثم تراجع عن موقفه نحو الامتثال [لقرارات الأمم المتحدة]. وكانت هذه السياسة مرهقة في ذلك الوقت، وسيكون لإجلاء الموظفين غير الأساسيين من المنشآت الدبلوماسية الأمريكية هناك نفس القدر من الإرهاق، في كل مرة تقوم فيها طهران ووكلاؤها بإطلاق تهديدات جديدة. ولن يؤدي ذلك إلا إلى عرقلة المسؤولين الأمريكيين والإخلال بالمنظومات الأمريكية، مع تقويض النفوذ الأمريكي. وحتى ولو لم تصل هذه الهجمات إلى مستوى حادثة بنغازي عام 2012، يتعين على الولايات المتحدة إجراء تحضيرات أكبر لتمكين الموظفين من “الاحتماء في أماكنهم”، حتى في المناطق الإقليمية الحساسة – فهذا هو الغرض المحدد الذي صممت من أجله منشآتها الدبلوماسية المحصنة ذات التكلفة الباهظة. ولا تستطيع واشنطن ممارسة أي نفوذ محلي مع حلفائها أو ممارسة أقصى قدر من الضغط على خصومها إذا كانت قدرتها على تحمّل المخاطر معدومة.
استثناء إقليم كردستان من هذه المعادلة: بينما يمكن للصواريخ الإيرانية الوصول إلى «إقليم كردستان العراق»، وقد يتمكن العناصر الإيرانيون من دخول الإقليم إلى حدٍّ ما، إلّا أنه يبقى أكثر أماناً من أي مكان آخر في العراق – ويعود ذلك إلى حد كبير إلى عدم وجود أي ميليشيات مدعومة من إيران ضمن قوات الأمن التابعة للإقليم. وبالتالي، حتى إذا كانت عمليات الإجلاء الأمريكية أمراً لا مفر منه في الأماكن الأخرى، يجب على واشنطن إبقاء فرقها العسكرية في «إقليم كردستان» سليمة تماماً. وهذا من شأنه أن يبعث رسالة قيّمة إلى بغداد حول كيفية حماية الوجود الأمريكي.
مشاركة المعلومات الاستخبارية: إذا علمت واشنطن بضلوع ميليشيات محددة في الهجمات، فعليها أن تشارك هذه المعلومات الاستخبارية على نطاق واسع، بما في ذلك في القطاع العام. وعلى النحو نفسه، إذا وُجدت في العراق صواريخ مصدرها إيران، فيجب مناقشة الأدلة على ذلك مع المسؤولين العراقيين – ومن ثم بشكل علني إذا أثبتت هذه القناة الخلفية أنها عديمة المكسب. فكلما كثرت الأدلة التي تشكفها واشنطن، كلما احترم خصومها وشركاؤها في العراق قدرتها على تحديد متى يتم تجاوز الخطوط الحمراء الأمريكية. ولا يزال من الممكن إخفاء مصادر ووسائل استخبارية محددة عند الكشف عن مثل هذه المعلومات، علماً بأن تلك التي لا يمكن إخفاؤها غالباً ما تكون معروفةً للسلطات الإيرانية على أي حال.