في الوقت الذي يحضر فيه عبد الفتاح البرهان، رئيس «المجلس العسكري الانتقالي» السوداني، القمة العربية في السعودية، ويقرّ فيه بوعده الشعب بتسليم السلطة للمدنيين، كان نائبه محمد حمدان دقلو (المعروف بحميدتي) يتهم المعتصمين بتلقي «دعم خارجي» من «دول تريد أن يتحول السودان إلى سوريا وليبيا»، ويجتمع بقادة القوى الأمنية لإعداد «ترتيبات الفترة المقبلة»، وذلك بعد يومين من إضراب ناجح قامت به قوى «إعلان الحرية والتغيير»، وتهديد للمعارضة بالانتقال إلى عصيان مدني.
إضافة إلى ذلك فقد قام «المجلس العسكري» بإغلاق مكتب قناة «الجزيرة» في الخرطوم وسحب تراخيص العمل لمراسليها وموظفيها، وذلك بعد يوم من التصريحات العسكرية التي تتهم شخصيات وطنية سودانية بـ«التخابر» مع جهات أجنبية «للعبث بمقدرات الوطن»، والقرار يهدف لوقف تغطية «الجزيرة» للاعتصام مما يثير الشكّ في ماهية «ترتيبات الفترة المقبلة» لقوات «الدعم السريع»، معطوفة على كونها استتباعا جديدا لحلف السعودية ـ الإمارات ـ مصر.
تطوّر آخر لافت للنظر برز في اتهام قائد المنطقة العسكرية المركزية في الخرطوم «عناصر منفلتة» بمهاجمة مركبة تابعة لقوات الدعم السريع والاستيلاء عليها قرب موقع الاعتصام قائلا في بيان بثه التلفزيون الرسمي إن «ميدان الاعتصام أضحى غير آمن ويشكل خطرا على الثورة والثوار ومهددا لتماسك الدولة وأمنها الوطني».
وقد تداول ناشطون سودانيون بالفعل مقاطع فيديو تصوّر هجوم شبان في إحدى مناطق الخرطوم للسيّارات المارّة، وهذا تكتيك تاريخي متبع تستخدمه قوى «الثورة المضادة» باستخدام عناصر محسوبة على المخابرات أو اتجاهات سياسية متضررة من الثورة لتشويه سلميّة الاحتجاجات وإعطاء مبررات لجهات داخل «المجلس العسكري» لضرب الاعتصام.
من التكتيكات الأخرى كانت إعادة «المجلس العسكري» الجهات النقابية الرسميّة التي كان يسيطر عليها نظام عمر حسن البشير، واستخدام بعض التيارات «السلفية» المساندة للسعودية، كما ساهم موقف رئيس حزب «الأمة» الصادق المهدي، الذي يحاول الوقوف في الوسط بين «الحرية والتغيير» و«المجلس العسكري» في الضغط على موقف المعارضة السودانية.
ردا على هذا التكتيكات تدفقت حشود المحتجين على موقع الاعتصام قرب قيادة «المجلس العسكري» وردد أفرادها شعارات ضد قوات الدعم السريع، التي يلعب قائدها عمليّا دور المحرّض على العنف ضد المحتجين، هاتفين «قوات مسلحة بس والدعم يطلع برا».
لقد كشف حميدتي بالفعل عن أوراقه بسرعة فكان السباق في إعلان الانحياز لمحور الإمارات ـ السعودية ـ مصر، ولا تحتاج تصريحاته العنيفة ضد المعارضة السودانية إلى تأمل كثير لتفكيك معانيها، لكنّ المثير للسخرية فيها هو الحديث عن «الدول التي تدفع المال» والتي تريد للسودان «أن يصبح مثل سوريا وليبيا»، فالدول التي تدفع المال فعلاً للمستبدين والطغاة والجنرالات، والتي لا تأبه بسفك الدماء ودفع المجتمعات إلى حروب أهلية، هي الدول التي تقوم بدعمه وتحوّل مئات الملايين لدفع رواتب جيشه، الذي يستهلك النسبة الأكبر من ميزانية السودان، والأكثر إثارة للسخرية اتهامه قوى «إعلان الحرية والتغيير» بأنها تريد السلطة وإعادة الجيش إلى ثكناته، وهو عين الصواب، فمكان الجيش هو الثكنات والجبهات الخارجية للدفاع عن أمن الوطن، وليس سوس البلاد بالحديد والنار، والاستقواء على الشعوب بمدافعه وطائراته، وهذا المنهج هو الذي أدى للدمار الرهيب في سوريا وليبيا، وليس تسليم السلطات للمدنيين.
القدس العربي