قصة العسكريين في أميركا اللاتينية

قصة العسكريين في أميركا اللاتينية

بينوشيه

في بلاد بعيدة جغرافيا عن دولنا العربية عايشت شعوب أميركااللاتينية تجارب كثيرة للحكم، أهمها تجربة الحكم العسكري. فهل في هذه التجربة ما يفيد شعوبنا العربية ومؤسساتنا العسكرية؟ ألا يمكننا إدراك بعض الدروس والعبر من سير الآخرين حتى ننقذ شعوبنا وجيوشنا؟

تحاول هذه المقالة الإجابة عن أربعة أسئلة من التجربة اللاتينية.

متى دخل العسكريون السياسة؟
يرتبط تدخل العسكريين في السياسة في دولنا المعاصرة بطبيعة الدولة المعاصرة ذاتها، التي قامت على أساس احتكار “الدولة” أدوات العنف بغرض “تحقيق المصلحة العامة” للجميع، مع تحديد مهمة الجيوش في حماية الدولة من العدوان الخارجي.

لا يحدث هذا في واقع الأمر في كثير من الدول، وحتى في الغرب هناك قوى وشركات استطاعت تسخير الدولة وآلياتها ومؤسساتها لتحقيق مصالح خاصة، كما أثيرت مسألة من يحرس الحراس، أي من يوقف الجيوش عند حدود مهمتها الأساسية.

أما في أميركا اللاتينية ما بعد الاستقلال، فقد ولدت “الدول” ضعيفة وغير قادرة على السيطرة على أدوات العنف نظرا لوجود منافسين محليين مسلحين لها. ولم تستطع السلطات الأوليجارشية (القائمة على حكم أقليات معينة) إقامة دول قوية إلا باستخدامها العنف وتطوير جيوش وأجهزة أمنية تحقق لهذه الأقليات سيطرتها المركزية.

ومعنى هذا باختصار أنه ومع نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20، ولدت جيوش مسيسة لخدمة مصالح طبقية معينة، برغم أن شعارات الجيوش آنذاك كانت “خدمة الأهداف القومية العامة”. وحتى ذلك التاريخ كان هناك بجوار الجيوش فئات أخرى من القوميين والمثقفين والتجار وغيرهم.

لكن بعد الحرب العالمية الثانية ظهر مذهب جديد للأمن في المنطقة، ففي ظل الحرب الباردة وبمساعدة الولايات المتحدة صار ينظر للجيوش على أنها القادرة بمفردها على إدارة وبناء الدول، وأصبح ينظر بعين الريبة والشك للمدنيين. كانت الولايات المتحدة في ذلك الوقت تحارب الشيوعية وتخشى من سيطرة القوى الراديكالية على القارة خاصة بعد الثورة الكوبية عام 1959.

ومع الطبيعة الإقصائية للسلطات الحاكمة ومع انقسام القوى المدنية وعدم استطاعتها تشكيل بديل قوي، تدخل العسكريون في السلطة بشكل مباشر أو غير مباشر. وصار تدخلهم أمرا شائعا خارج القارة اللاتينية. وتعددت الأسباب، لكن أهم سببين كانا: انقسام القوى السياسية المدنية أو استدعاء فريق منها العسكريين ضد خصومه السياسيين، والدعم الخارجي الغربي للعسكريين في ظل سياسة محاربة خصم أيديولوجي هو الشيوعية.

وفي معظم الحالات أتى العسكريون إلى السلطة في أعقاب انقلابات عسكرية أو عصيان مسلح أو حروب أهلية. ومن المهم معرفة أنه في معظم الحالات كان للعسكريين ظهير شعبي، وهذا ناتج طبيعي لحالة الانقسام السياسي التي عادة ما تسبق التدخل، وفي ظل معدلات أمية مرتفعة.

كيف حكم العسكريون؟
إغلاق المجال السياسي وتشويه القانون وعسكرة المجال العام أول خصائص الحكم العسكري. ولهذا مظاهر كثيرة، مثل السيطرة على البرلمانات والأحزاب أو حلها بالكامل، السيطرة على السلطة التنفيذية من خلال المجالس العسكرية أو بترشيح رؤساء عسكريين أو مدعومين من العسكريين، والحكم بمراسيم وفي ظل قوانين استثنائية وحالات الطوارئ.

هذا فضلا عن استخدام القضاء لمحاكمة المعارضين صوريا وإعدام رموزهم، السيطرة على أجهزة الأمن والمخابرات واستخدامها في القمع والتعذيب والاختفاء القسري والنفي، عدم قبول أي رأى معارض وتقسيم المجتمع إلى فريقين مؤيد “وطني” ومعارض “خائن”، ترويج أنه لا يوجد بديل وأن المدنيين غير صالحين لإدارة البلاد، السيطرة على أدوات التأثير على العقول كالإعلام والصحافة والجامعات، إيجاد طبقة من المثقفين التابعين وغير ذلك.

وفى كثير من الحالات خلع العسكريون بدلهم العسكرية وتحولوا إلى مدنيين واستعانوا بوزراء تكنوقراط وجنرالات متقاعدين لإظهار واجهة مدنية للحكم. وفي دول مثل البرازيل والأرجنتين أقحم العسكريون أنفسهم في كافة الشؤون المدنية الرئيسية، وصارت مهمة أجهزة المخابرات حماية السيطرة العسكرية، بل وصارت هذه الأجهزة المرجع الأول في كثير من القضايا العامة.

أما الخاصة الثانية فهي خوض حرب داخلية أو خارجية لكسب شرعية التدخل في السياسة والقول بأن الجيش في مهمة مقدسة لحماية الدولة والمجتمع. وقد كان هذا العدو هو حركات اليسار بأميركا اللاتينية، التي كانت تمثل “إرهاب” ذلك العصر، وكان الحليف هو الولايات المتحدة.

وواكب هذا مهم في عقيدة الأمن القومي للجيوش من مواجهة عدو خارجي (المهمة الأساسية للجيوش) إلى مواجهة عدو داخلي، الأمر الذي أدى إلى شرعنة نظام قمع المخالفين في الرأي، وزرع الخوف في قطاعات كثيرة بالمجتمع، وتبرير بقاء العسكريين بالسلطة، وجر مؤسسات أخرى غير سياسية إلى مستنقع السياسة كالقضاء والأمن والمخابرات.

كما تضمنت عقيدة الجيش مهام اقتصادية واجتماعية. ولهذا جذور فكرية أوروبية وأميركية، فتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية مقدمة ضرورية لمحاربة حركات التمرد والتغيير. ولهذا تدخلت الجيوش في الاقتصاد بأنماط مختلفة، فبينما اختار البعض تعزيز قدرات الدولة التصنيعية والتصديرية، اختار البعض الآخر بناء اقتصاديات رأسمالية على النمط الغربي.

وتغيير عقيدة الجيوش وقيام هذه الجيوش بأدوار متعددة في الداخل والاقتصاد والسياسات الأمنية للبلاد أمور غير قابلة للعلاج بشكل سريع، وظلت عقبة كأداء أمام هذه الدول كما سنشير لاحقا.

لماذا غادر العسكريون السلطة؟
تعددت المتغيرات هنا، ولعل المتغير الأهم هو أن الحكومات العسكرية أضعفت من تماسك المؤسسات العسكرية ذاتها ومن الثقة فيها، وذلك بسبب انتهاكات حقوق الإنسان وانخراط البعض في قضايا فساد وغيرها. ورغم تحقيق بعض الإنجازات الاقتصادية، فإن طول فترة بقاء العسكريين في السلطة وفشلهم في إقامة قاعدة شعبية حقيقية أدى إلى ضعف شرعيتهم وتراجع حلفائهم وتقوية المعارضين.

ولا يخرج العسكريون من السلطة إلا مع تطور حركة اجتماعية وسياسية معارضة ولها جذور شعبية عابرة للانتماءات الأيديولوجية، وقادرة على التواصل مع الأحزاب السياسية لتشكيل بديل سياسي مدني بأجندة سياسية موحدة تقوم على إعادة التمسك بحقوق وحريات الإنسان، وانتقاد الطبيعة الإقصائية والانفرادية للحكومات العسكرية. بجانب امتلاك هذا البديل للحد الأدنى من مهارات الحكم المؤسسي وأدوات الضغط المختلفة ومنها التظاهرات الشعبية والقدرة على التفاوض ضمن خطة سياسية منظمة وترتيب للأولويات.

وفي حالات كثيرة مثل العامل الخارجي عاملا مهما. فقد تساقطت النظم التسلطية بجنوب أوروبا في منتصف السبعينيات وامتد الأمر إلى أميركا اللاتينية وغيرها. وقد واكب هذا أيضا موجة من الضغط من المنظمات الدولية ومن الكنيسة الكاثوليكية ومن بعض الحكومات الغربية خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة.

لكن وبشكل عام يبدأ التغيير من الداخل، فهو غير ممكن دون رأي عام داخلي مناد بالتغيير وقوى سياسية قادرة على وضع برنامج سياسي حقيقي. ومتى وجد هذا العامل الداخلي فإنه كفيل بتحييد العقبات التي قد تأتي من الخارج. وهذا ما حدث في معظم دول أميركا اللاتينية.

ومن الأهمية الإشارة إلى أن الخطر الأكبر على الحكم العسكري هو المؤسسة العسكرية ذاتها. وتختلف الحالات هنا، فالحكومات العسكرية التي تستند إلى المؤسسة ذاتها غالبا تشهد انشقاقا داخلها بين الحكم المدني والعسكري كما حدث في البرازيل والذي انتهى لصالح الحكم المدني. كما قد تساعد أحداث أخرى في خروج العسكريين من السلطة، مثل هزيمة الجيش الأرجنتيني في حرب الفوكلاند.

وتختلف الحالات اللاتينية عن حالات أخرى استند فيها الحكم العسكري إلى جنرال واحد أو مجموعة من الجنرالات. وهنا غالبا ما تشهد تلك الدول انقلابات عسكرية مضادة أو عمليات عصيان مسلح أو حروبا أهلية. وقد عانت كوريا الجنوبية من مثل هذا النوع من الحكومات حتى استطاعت انتفاضات الطلاب والمثقفين هناك إجبار العسكريين على الخروج. وفي أفريقيا، كان نتاج الحكم العسكري الفردي حروبا أهلية مدمرة.

متى يخرجون من السياسة؟
في جميع الحالات السابقة، خرج العسكريون من السلطة، إلا أنه ظلت لهم أدوار متفاوتة في السياسة. وبدون الخوض في تفاصيل لا تحتملها مساحة المقال يمكن القول إن المسألة لم تكن قط صراعا صفريا، فهي كما جاء في مطلع المقال مرتبطة بطبيعة “الدولة” المعاصرة ذاتها وبالسياق العام.

ومن الأدوار السياسية التي احتفظت بها الجيوش نجاح بعضها في تحصين أفرادها من المحاسبة عن انتهاكات حقوق الإنسان، وإبقاء دور للجيوش في الأجهزة المؤثرة كالمخابرات ومجالس الأمن القومي والأكاديميات العسكرية وأجهزة الأمن ومجالس الشيوخ، نفوذ الجيوش من خلال الجنرالات المتقاعدين والمستشارين العسكريين، بقاء هيمنة الجيوش في رسم السياسات الأمنية والعسكرية وقلة الخبراء المدنيين في هذه المجالات.

كما ساهم ضعف حكم القانون في عدد من دول أميركا اللاتينية في بقاء الجيوش الفاعل الوحيد في المناطق النائية، وفي محاربة الأنماط الجديدة من العنف الداخلي كالجريمة المنظمة وتجارة المخدرات كما في كولومبيا والمكسيك وبيرو وغواتيمالا وغيرها. أما إدخال الجيوش لاعبا اقتصاديا فقد نجم عنه بعد خروجها من السلطة تحول هذه الجيوش إلى فاعلين اقتصاديين، يديرون المصانع والشركات والمشروعات.

ومعالجة هذه الأمور ستحتاج إلى وقت أطول، إذ ترتبط بإعادة صياغة العقيدة الأمنية من جهة، وبقدرة المدنيين على تغيير نمط ممارسة السلطة بتقوية حكم القانون والشفافية والمحاسبة وتمكين الشعب وتقوية مؤسساته وذلك من جهة أخرى.

خلاصتان أساسيتان: الأولى أن موقف الجيش من عمليات التغيير السياسي موقف مهم وحاسم، فإما ينحاز لحكم القانون ودولة المؤسسات والشفافية فينقذ نفسه وبلاده معا، وإما يقف ضد التغيير فيدخل البلاد والعباد في صراعات لن تنتهي إلا بإضعاف الدولة والجيش معا.

أما الخلاصة الثانية فهي أن مقاومة العسكريين للتغيير لن تؤدى إلا إلى تأخير التغيير ورفع تكلفة الحرية وبناء دولة القانون، فهذا النوع من الأنظمة إلى زوال، والعاقل هو من لا يعاند التاريخ وينحاز إلى حرية الشعوب ويسهم في بناء دولة القانون والعدل والمساءلة.

عبدالفتاح ماضي

الجزيرة نت