لعبة المستتر والمكشوف: الإعلام والحراك الجزائري

لعبة المستتر والمكشوف: الإعلام والحراك الجزائري

كلُّ شيء في وسائل الإعلام الجزائرية بات مباحاً منذ أن أخرج الحراك رأسه من قمقم الصمت والسكون إلى رحابة الشارع الممزَّق بين الغضب والفرح، بين التفاؤل والتشاؤم، ينشد حرية تبدو لطيفة ولكنها مُخيفة، ملتبسة ولابسة أقنعة أنيقة تجوب الدروب والحواري والأزقّة، تصدح عالياً بشعارات ستبقى علامة على أن الجزائر نصٌّ طويل يعسر شرحه وفهمه وفكّ عتباته وتوقُّع مصيره الذي يتوق إلى لحظة أخرى فارقة مستلَّة من جحيم اليأس والهمّ المتراكم بثقله على روح وجسد البلد المنهوب والمختطف والمكبَّل والمنهك، تؤسّس لتاريخ جديد بوجوه جديدة لم يغطّها الغبار… بملامح صافية غير متغضّنة ومتجعّدة ومستهلكة كالتي يقدمها هذا الإعلام المطلّ هو الآخر من الرداءة والفراغ ونكوص المخيّلة والسطحية.

■ ■ ■

مثلما يقاوم الحراك نفسه كل جمعة ويتحدّى ويكابر ولا يلين، يفعل الإعلام الأمر نفسه ليتجاوز انغلاقه وانسداده وتبعيته لقوى غامضة، يجذّر توقيته في إيقاع الشارع، مرافقاً وملتقطاً وفاتحاً ومحتضناً ومحاوراً العديد من الأصوات والوجوه والرموز والمواقف، ويصوّر حتى الفذلكات والطرائف، ويعطي الميكرفون ويشغل الكاميرا ويفتح المسجّلة لكل الآراء والمشاعر التي تتقدّم المشهد، بل يناقش ويكتب وينشر ويكشف ويغالط ويفتري ويعظّم ويقزّم ويبتزّ ويراهن ويُقصي ويتفّه ويتطاول ويتوهّم ويثير الصراع على الأهم واللامهم، ويخلط بين الباطل والحق، بين الكذب والصدق، يقلب الثابت ويثبّت المتقلّب، يُجهّل المقدس ويقدّس الجاهل، بل يذهب إلى الخصوصيات والحياة المتخفية في الغرف والبيوت والأمكنة الخاصة ويعرضها بصفاقة ربحاً للسبق، وما يتوهّم أنه ريادة وتفوّق.

■ ■ ■

ولّد الحراك في الجزائر حالة إعلامية متشظّية، عاصفة ومندفعة ومستخفّة في الكثير من الأحيان بمنطق الوعي والمسؤولية والأخلاق، يرطن بكل صغيرة وكبيرة، ويعلي من شأنها مهما كانت قيمتها في سوق الكلام والفعل، يترصّد من مواقعه وصحفه الحدث الأبرز على الإطلاق؛ “خطبة العسكر”، يحاول فكّ شفراتها وما وراء أسطرها وفواصلها ونقاطها وحروفها الغائبة والحاضرة، المضمر منها والمشار إليها والمستتر والواضح فيها، ويستبقي الحراك إلى حين؛ فهو مشغول بالعصابة المتحرّكة، يسلّط عليها “البروجكتور”، فهي نادرة ومدهشة ومفاجِئة ونادرة وطارئة لعين المشاهد وفي سرود الإعلام، يصنع منها قنبلة إعلامية ويحرص على الفوز بأحسن لقطة مقرّبة تكاد تلامس خدود وشفاه وعيون تلك الوجوه الخرافية الهلامية التي صنعت لنفسها أو صُنعت لها أسطورة تغذّت بعسل الهمس والإشارات الإلهية، وبثّت كهرباء الرعب القاسي المخيف بظلاله لكل من تسوّل له نفسه مجرّد النطق باسمها، سيطرت على الجزائر لعقود وها هي مجرّدة من سطوتها ومكشوفة للعيان… تجرّ أرجلها بتثاقل كأنها كانت من قبل لا تمشي على الأرض بل تطير بأجنحة هلامية.. تعيسة وحزينة ومنهكة ومريضة ومحبطة ومسحوبة من العرش المغري للسلطة إلى حضيض السجون… مكشوفة في صور تتتالى وتنبض باللقطة السريعة والبطيئة حسب زاوية نظر الكاميرا.

الكثير لا يصدّق ما يراه وما يسمعه وما تطالعه به الصحف والسوشل ميديا وما يُقال في “راديوهات التروتوار” (تعبير فرنسي يعني إذاعات الرصيف، كنايةً على ما يُتداول في الشارع)، فقد نشأ على ثقافة مؤسطرة مستكينة تتقدّس بالسمع والطاعة العمياء وتستسلم ولا تسائل ولا تخوض في ما لا يعنيها، إلى جانب ذلك تكتب آراء وأعمدة وتحاليل ومعلومات في مقالات تتكاثر وتنشط بلغات وأساليب مصقولة بسكّين حاد يوغل في البحث لفهم ما يحدث وما سيحدث، وعندما يعود إلى الحراك يعود إليه وقد تصاعدت نبرة هذا الأخير وتكثّف وجوده بعد أن كاد يؤول إلى عدم.

■ ■ ■

حيث يكون هناك حراك يكون له إعلامه… يستقصي مناطق قوّته وضعفه ونفوذه… يسردها أو يصوّرها أو يقارب مجموعاتها ومللها ونحلها التي تطوّرت وتشكّلت وبرزت من عمق الجزائر… يقرأها وفق هواه، أو ينخرط في نقلها كما هي، أو يضيف إليها الزينة والكثير من مساحيق التجميل في غرف ضيقة، أو يقصها بمقص دقيق، عن عمى أو عن بصيرة، بحسابات ضيقة أو مصلحية، عن خوف ما، أو عن جرأة زائدة.. فكل شيء يعوم في الحراك من الشعارات الخفّاقة، والصور التي تلوح، والمطالب التي تتزايد، والهتافات التي تصدح… تنوُّعٌ برّاق ومعقد في إعلام يجول في ميدان حراك يطول ويطول، يحاول أن يجترح لأذرعه الممتدّة والمديدة لحظته، ويشتبك معه، يجالسه ويقترن به، وينتمي إلى متونه وهوامشه ومركزه، بعد أن كان لوقت قصير عقيماً وواهماً وخاضعاً.

■ ■ ■

ولكن هل روّض الحراك الإعلام وجعل منه أداته الحقيقية في انتهاك المستحيل وتكسير التابوهات وتحطيم آلهة الخوف والرعب وتحدّي الممنوع وتخطّي الخطوط الحمراء؟ أم أن العكس هو الذي حصل؛ حيث جعل الإعلام بمختلف وسائله وأصنافه من الحراك مسرحاً واسعاً للحضور والتموقع وزيادة نسب المشاهدة والرفع من قيمته في “البازار” الكبير الذي ينشطر فيه ولم يعد له نفس المفهوم والمعنى والرسالة والضمير، حيث يكفي لأي كان أن يبني لنفسه وسيطاً افتراضياً كي يقول وينشر ويعرض، ويغدو مرجعاً ومصدراً يعوّل عليه في الخبر والمعلومة، حتى لو أصبح وسيلةً للأيادي الخفية الذكية، سواء كانت داخلية أو خارجية، دينية أو عرقية، جهوية أو سياسية، مافيوية أو مالية، والتي تلعب بدهاء ومكر للظفر بما تريد، وتمتد ما شاء لها أن تمتد، خاصة أن المآلات البارعة للحراك ولو بدت في الظاهر معروفة بالاسم والمكان والزمان والشخوص والمطالب، إلا أن الآتي المبطن سيكون أكثر استعصاء، ومبنياً للمجهول، ومتعثراً، وممهوراً بالصعب والتأزم، ومرتهناً بعيون أخرى مواربة تراقب وترصد وتنقب عن الخلل لتُفعّل فيه الفوضى والخراب والخلافات والانشقاقات، وتهندس الراهن والمستقبل ـ إن كان لناً حقّاً مستقبل وسط جغرافيات وأمم لم تعد عظيمة بشعوبها، بل بما تتقدّم به من علوم وتطور وخوارق تخترق الفضاء والكون والخلية والعقل والإنسان، حسب نزواتها واتجاهات مصالحها.

■ ■ ■

سينتهي الحراك حتماً إلى مستقرّ ما ويكف عن الدوران في حلقات المكابرة والرفض والعناد و”خشونة الرأس”. وعلى أمل أن يخرج من حالات العطالة والعطب، سترافقه آلة الإعلام تسوّق للحلول والمخارج الكثيرة التي تستمر في السيران والسيلان من كل حدب وصوب. كل ذلك كي لا يرتكس ويصاب بالنكوص. ومهما كانت لعبة الخيارات المتناغمة بين الحراك والإعلام مستترة ومكشوفة، فستكون لذلك حيويته وقوته، فلا حيوية وقوة إلا للذي يتحرّى الصدق والأمانة والإخلاص في ما يراهن عليه ويكنّه لمستقبل الجزائر.

العربي الجديد