لا علاقة ظاهرًا بين أدونيس العُظامي والطائفي والكاره للعرب والإسلام (ومعه قوميون ويساريون مخلَّدون) من جهة – وفهمي هويدي المحبّ ظاهرًا للعرب والمسلمين، لكنْ المشترط عليهم لكي يحظوا برضاه شروطًا أين منها خنزوانات الأقليات وتعللاتها (!). أدونيس مستعد لتسمية نفسه عربيًا بشرط أن يبرأ العرب من قوميتهم ومن دينهم ومن ماضيهم وحاضرهم، وأن يسلِّموا ببشار الأسد رئيسًا إلى الأبد (!). أمّا فهمي هويدي فإنه مهمومٌ بالمصير العربي، لكنه يشترط على العرب لكي يبقى مهمومًا بهم أن يسلِّموا لإيران بالزعامة في المنطقة وفي قضية فلسطين، وأن يكرهوا الخليج وأهله (الذين يتطاولون في البنيان، ويحاولون من دون حق بالطبع صنع المقادير)، وأن يعلنوا خيبتهم من مصر الحالية التي لا تتحمس لاسترداد موقعها الشاغر بالحضور بعد غيبة. وهو الموقع الذي لا يمكن أن يستتبَّ إلاّ على حساب «الأقزام» الذين لا يصنعون عملاقًا، مثل «الأصفار» التي لا تصنع رقمًا!
ما كانت مقالة فهمي هويدي في إحدى الصحف المصرية في الظاهر إلاّ أسى على المصير العربي المهدَّد. لكنْ لو تفحصنا فقراتها المخصَّصة للمشاهد الأربعة كما سمّاها، لما وجدْنا غير ثلاثة مشاهد أو هموم وهي: الاستماتة في إثبات وجود تآمُر أو تواصُل على الأقلّ بين السعودية وإسرائيل.. والنعي على الأعراب بسبب عدائهم لإيران أو خصومتهم معها.. والهمّ الثالث أو الدعوى الثالثة اتهام الأعراب غير المؤهَّلين باغتصاب الدور المصري، ودعوة مصر لاسترداد دورها المغيَّب، مع أنه لا أمل في ذلك في المدى القريب!
أدونيس بدأ قوميًا سوريًا معاديًا للناصرية، وانتهى قائدًا لاتجاهٍ شعري وفكري تسابق للانضواء تحت رايته بقايا القوميين واليساريين؛ بينما بدأ هويدي إخوانيًا تحت حماية هيكل في جريدة «الأهرام»، وصار كاتبًا معروفًا في الصحف الخليجية على مدى عشرين عامًا وأكثر، ليعودَ فيكشف عن «أصالته» وإخلاصه للهيكلية والإخوانية والتأيرُن، ملتقيًا بذلك من حيث قصد أو لم يقصدْ مع كلِّ الخصوم السابقين!
لماذا هذه الكراهية للخليجيين بدليل جمع إشارات وأدلة سخيفة عن علاقاتٍ لهم مع إسرائيل، تتلخص في قولٍ لواحد إسرائيلي؟! هذا الأمر معروفٌ عن هويدي وكتّاب مصريين آخرين منذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي، فهم يعملون في المجلات والصحف والمؤسسات البحثية والثقافية الخليجية، يعتقدون في الوقت نفسه أنهم الأعقل والأعلَم والأحذق. وقد قلتُ لأحد زملاء هويدي عام 1985 أو 1986: هم يأتون بكم طبعًا لأنكم خبراء، كما يستقدم الأميركيون خبراء من جميع أنحاء العالم، إنما لماذا تعتقدون أنكم بذلك تكونون أفضل منهم؟ وأجاب الرجل ضاحكًا: نحن لسنا أفضل بل أحقّ، لأننا مصريون أو ممثلون لمصر في المرابع الخليجية. وعند الأستاذ هويدي أضيف إلى هذا العُظام النرجسي (الذي بلغ ذروته عند هيكل ومدرسته) العُظام الإخواني الذي تربَّى عليه. ومن الطريف أنّ السلطة السياسية المصرية كانت دائمًا أعقل من مدرسة هيكل، ومدرسة «الإخوان»، ومدرسة اليسار، في صَوغ العلاقة بين مصر والسعودية. ويعود ذلك إلى الأربعينات عندما وقع على عاتق مصر والسعودية إقامة الجامعة العربية. وقد اختلف الطرفان في ما بعد في شأن الوحدة المصرية مع سوريا، وفي شأن اليمن. لكنهما تعاونا في مؤتمرات القمة، وفي الصمود في وجه العدو بعد عام 1967.
ما كان «الإخوان» ولا كان هيكل متفقين مع الرئيسين السادات ومبارك في السياسات تجاه إسرائيل. وبخلاف هيكل الذي كان إسلامه ولا يزال إسلامًا استشراقيًا؛ فإنّ «الإخوان» ومشايعيهم من المثقفين عملوا على ترشيد الصحوة وعلى الأسلمة باسم تطبيق الشريعة لاستعادة الشرعية الإسلامية للبلاد. إنما في العمق فإنّ الهيكليين واليساريين والإسلاميين اتفقوا في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي على أنّ السعودية إنما أكلت الدور المصري العربي والإسلامي دون أن تستطيع القيامَ به. بينما كان الواقع أنّ صدام والأسد والقذافي هم الذين كانوا يتناتشون الدور المصري؛ في حين دأبت السعودية على العمل مع مصر لصَون المصالح الكبرى للعرب، والتي ضيَّعتها صراعاتُ الطُغاة هؤلاء. لكنّ المسألة مسألة وعي وليست مسألة واقع، كما أنها مسائل مصالح قريبة، وإلاّ فلماذا لا يختلف هيكل وهويدي مع قَطَر، التي تدخلت من قبل وتتدخل اليوم في الشؤون المصرية الداخلية؟!
وإلى هنا والأمر معقولٌ وإن لم يكن مقبولاً. وتأتي معقوليته من جواز التناقش في طبائع العلاقات بين دولتين عربيتين كبريين، باعتبار أنهما هما اللتان تحددان الأولويات في المشرق العربي أو كانتا كذلك. إنما غير المعقول وغير المقبول الضِلْعُ الثالث البارزُ في هذه «المنافرة» الهويدية والهيكلية مع السعودية والخليج. وأعني بالضلع الثالث الموقف من إيران، واعتبار إيران أقرب إليهم (إخوانًا وعُظاميين مصريين) من السعودية والخليج، ومطالبة السلطات أيام مرسي وقبل مرسي وبعده بالتحالف مع إيران، والحجة أو الحجتان في ذلك: موقف إيران من إسرائيل، ومواجهتها للسياسات الأميركية بالمنطقة! لقد تنبهتُ لذلك في العقد الأول من هذا القرن، عندما كان مئاتٌ من المصريين والعرب الآخرين يأتون إلى بيروت لرؤية حسن نصر الله، أو يتابعون السفر إلى طهران. وقد قلت لواحدٍ منهم (وهو اليوم في السجن بمصر، وأرجو له الفرج والمخرج): لكنْ يا أخي إيران التي تعمل معها على تحرير فلسطين، تعمل مع الأميركان بعد غزوهم للعراق، وتتساوم معهم في سوريا ولبنان، وتعطّل العمليات الوطنية التفاوضية في البحرين.. وقد قلتَ لي إنك رأيت يمنيين كثيرين عندهم بالضاحية، فالله يستر ماذا سيفعلون، وأنا أظن أنّ الأمر لن يقلَّ عما فعلوه بغزة! وسكت الرجل هنيهةً ثم قال: هل قرأْتَ كتاب فهمي هويدي: «إيران من الداخل»؟ وقلت: هذا كتابٌ قديمٌ وعن التيارات بالداخل الإيراني بعد الثورة مباشرةً، ونحن في عام 2009! قال: لكنْ لا أحد يصارع أميركا وإسرائيل غير إيران! وقلت: ماذا ينقصك أو ينقصنا؟ إن لم تعجبنا سياسات دولنا تجاه قضية فلسطين، فتعال ننشئ جبهةً نضاليةً نحدد نحن العرب أهدافها بدلا من أن تقودنا إيران دون أن ندرك أهدافها ومقاصدها!
فهمي هويدي، مثل عشراتٍ غيره من العروبيين والإسلاميين، وبحجة قضية فلسطين أو من دون حجة، هو مع حسن نصر الله وإيران منذ الثمانينات، حتى بعد احتلال بيروت والانفصال بغزة، وتخريب العراق وسوريا واليمن، والعمل مع أميركا في كل مكان!
يقول الأستاذ هويدي إنّ المصير العربي في مفترق الطرق، ثم يتساءل: هل يصبح العالم العربي أثرًا بعد عين؟ العرب نحو الأربعمائة مليون، وهم يصارعون الإرهاب والتشدد والطغيان والتدخلات الإقليمية. ومعظمهم يعرف تماما ما يريده. أما الواقفون في مفترق الطرق فهم الذين يحتقرون أمتهم، ويعجبون بإيران وتركيا وكل الآخرين، بشرط ألا يكونوا خليجيين! إنهم أولئك «الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا».
رضوان السيد
صحيفة الشرق الأوسط