تقول بيرل باك الأديبة الأميركية الحائزة على جائزة نوبل: “لو أردت فهم الحاضر، فعليك بدراسة الماضي”، ويقول الشاعر والأديب العالمي جبران خليل جبران: “من يشنقه صوت الماضي، لا يستطيع مخاطبة المستقبل”، وهذا بالضبط ما يحدث الآن في العلاقات الأميركية – الإيرانية، إذ إن كل طرف لم يتمكّن من كسر حلقة الماضي الأليم، الذي طبع العلاقات لأربعين عاما متواصلة، وهو ما يعوق جهود تخفيف الصراع الحالي في ظل ما يكرره الإيرانيون بأن واشنطن تسعى إلى تغيير النظام في طهران، وفي قلب اعتقاد سائد في العاصمة الأميركية بأن أي مفاوضات مستقبلية محتملة مع إيران (سواء أكان ذلك خلال أو بعد إدارة الرئيس ترمب) سوف تتطلب حل كثير من القضايا الضخمة العالقة والمصالح المتضاربة، والأهم معالجة تلك الجروح الغائرة في النفوس والأذهان بعد عشرات السنين.
وفي حين تتصاعد وتيرة التوترات والتهديدات وتتساقط الصواريخ قرب مصالح أميركية في بغداد بعد أيام قليلة من تفجير ناقلات بترول في الخليج وتتكثف التعزيزات العسكرية الأميركية في المنطقة، تطفو من جديد حكايات متجذرة في الماضي البعيد، تحمل كثيراً من الضغائن والخلافات، التي يمكن أن تدفع الولايات المتحدة وإيران إلى مسافة قريبة جداً من الحرب كما يقول مراقبون في واشنطن.
أزمة الرهائن ما زالت حاضرة
بالنسبة إلى الأميركيين، فإن المغامرات الإيرانية ونفوذها التوسعي ليس وليد الساعة، إنما تنغرس في الذهنية الأميركية منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وما أعقبها من أزمة للرهائن الأميركيين، التي تعد أطول أزمة رهائن في التاريخ، حيث ثبتت الأميركيين أمام شاشات التلفزيون 14 شهراً متواصلة، ليتابعوا يوماً بعد يوم مشاهد مؤلمة، ولَّدت لديهم مشاعر غاضبة، ومثلت نقطة هجوم فاصلة وجرح لم يندمل تجاه رؤية الأميركيين لبلدهم، فقد عزز هذا الهجوم الذي جاء بعد خمسة أعوام فقط من انتهاء حرب فيتنام وما واكبها من ضحايا بالآلاف، فكرة أن مكانة ودور الولايات المتحدة في العالم قد تتغير، وأن هناك حدوداً للقوة الأميركية ونفوذها حول العالم.
عقوبات أميركية جديدة على كيانات مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني
وعلى الرغم من أن أزمة الرهائن لا تُستدعى حالياً في الخطابات السياسية داخل البيت الأبيض أو الكونغرس، فإنها ما زالت حاضرة في العقلية الأميركية، خصوصاً أن الذكرى الأربعين للأزمة، مرّت قبل أسابيع، فعادت شبكات التلفزيون الأميركية إلى بث صورها المؤلمة على المشاهدين وشرحت لهم، خصوصاً من لم يعاصروا هذه الفترة من الأجيال الجديدة، كيف اقتحم مئات من الطلبة المؤيدين المرشد الروحي للثورة الإسلامية آية الله الخميني، سفارة الولايات المتحدة، واحتجزوا 52 دبلوماسياً ومواطناً أميركياً لمدة 444 يوماً استمرت من 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1979 وإلى 20 يناير (كانون الثاني) 1981 في تدبير واضح من الخميني وسلطته لتوطيد دعائم حكمهم الجديد في إيران وتعزيز الحكم الديني المناهض العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة حليفة الشاه رضا بهلوي الذي أطاحته الثورة.
تداعيات الأزمة لم تنعكس فقط في السنوات التالية لها على الثقافة الشعبية الأميركية من إنتاج أفلام سينمائية أو تلحين أغان أو تأليف كتب تُجسّد مقدار الجُرح، الذي دفع ثمنه الرئيس جيمي كارتر غالياً بخسارة مهينة أمام رونالد ريغان في الانتخابات الرئاسية التالية، إنما امتدت التداعيات السلبية إلى الذهنية الأميركية الشعبية حتى الآن، إذ أظهر استطلاع للرأي أجرته “بي بي سي” عام 2013 خلال عهد باراك أوباما، أن 87% من الأميركيين لديهم نظرة سلبية تجاه إيران، وهي أعلى نسبة بين دول العالم الأخرى، كما أشار استطلاع رأي آخر أجراه مركز “بيو” الأميركي العام الماضي إلى أن 39% من الأميركيين يرون أن الحد من نفوذ إيران، يجب أن يكون على رأس أولويات السياسة الخارجية الأميركية.
البصمة الوراثية الإيرانية لم تتغير
ويقول روس هاريسون أستاذ الأمن القومي والسياسة الخارجية في جامعة “بيتسبيرغ” الأميركية، إن “إدارة ترمب الحالية لم تفعل سوى القليل لشيطنة إيران أمام الرأي العام أو في داخل دهاليز السياسة الأميركية، فقد كانت الذهنية مستعدة للتحرك ضد إيران، ذلك أن الثورة الإسلامية لم تُظهر فقط أن الإسلام السياسي والقومية الإيرانية يمكن أن تُسقط نظاماً يحظى بدعم كامل من الولايات المتحدة، إنما مثلت أزمة الرهائن بداية لمناوشات ومناورات ما أصبح معروفاً بمقاومة إيران النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، كما أعطت إشارة إلى الأميركيين والعالم بأن هناك من يضع قواعد جديدة في الشرق الأوسط، أبرزها تجاهل الأعراف الدبلوماسية وحرمة السفارات، وهو ما فعله الإيرانيون في أزمة الرهائن، فوجهوا ضربة لكرامة الأميركيين واعتزازهم ببلدهم”.
ويضيف، “بدلا من سعي إيران إلى التخفيف من مشاعر البغضاء لدى الأميركيين، سارعت إلى تشكيل ما تسميه بـ(جبهة المقاومة) مع كل من سوريا وحزب الله اللبناني ضد الجهود الأميركية في المنطقة، وبهذا ذكّرت صُناع القرار في واشنطن بأن (البصمة الوراثية) أو (بصمة الحمض النووي) للثورة الإيرانية ضد الولايات المتحدة لم تتغير من جيل إلى جيل في طهران”.
تاريخ من الصراع والتحدي
رسمت الذكريات الأليمة لأزمة الرهائن ومن قبلها الثورة الإسلامية ملامح العلاقة بين واشنطن وطهران في السنوات التالية، إذ كانت إيران بالنسبة إلى الأميركيين تحدياً لمصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط بعدما كانت تلعب دوراً محورياً ضد الاتحاد السوفييتي كحليف قوي لواشنطن.
فخلال الأعوام التالية وأثناء حكم رونالد ريغان، واصلت الولايات المتحدة فرض عقوبات على إيران، وساعدت العراق في حربه ضدها، وزوّدت نظام صدام حسين بأسلحة متعددة وفقاً لتقرير أصدره مجلس الشيوخ، بعدما وقعت هجمات إرهابية ضد سفارة الولايات المتحدة في بيروت وقوات حفظ السلام الأميركية، التي أسفرت عن مقتل مئات من الأميركيين اتضح لاحقاً من وثائق محاكم أميركية، أن حزب الله نَفّذَ هذه الهجمات بأوامر من طهران.
ورغم ما أثير من ضجة حول صفقة “كونترا – غيت” في منتصف الثمانينيات التي تم من خلالها تزويد إيران بأسلحة أميركية مقابل دفع ثمنها إلى متمردي الكونترا الساعين إلى إطاحة حكومة نيكاراغوا اليسارية، فإن إدارة ريغان كانت ترغب فقط في تدخل إيران لإطلاق سراح رهائن أميركيين احتجزوا في لبنان، ولم تلبث العلاقات أن ساءت بسرعة مع شن الولايات المتحدة هجوماً عسكرياً بحرياً ضد إيران عام 1988، عقاباً لها على نشر ألغام بحرية في مياه الخليج، وهو الهجوم الذي ضغط على إيران، وأسهم في وقف حربها مع العراق.
استمرت العلاقات الأميركية – الإيرانية على وتيرتها في عهد الرئيس بوش الأب، لكنها في عهد بيل كلينتون شهدت حظراً جديداً لتعامل الشركات الأميركية مع إيران، ورغم التهدئة التي رافقت تعاطف الرئيس الإيراني محمد خاتمي مع ضحايا أحداث 11 سبتمبر (أيلول) في الولايات المتحدة وقرار المرشد الأعلى علي خامنئي وقف شعار “الموت لأميركا” في صلاة الجمعة بشكل مؤقت، إلا أن الرئيس بوش الابن ما لبث أن ضم إيران إلى “محور الشر” بجانب العراق وكوريا الجنوبية عام 2002، ومع وصول باراك أوباما إلى سُدة الرئاسة في الولايات المتحدة شهدت العلاقات شداً وجذباً، لكنها انتهت إلى رفع العقوبات عن إيران، التي دامت سنوات طويلة بعد التوصل إلى الاتفاق النووي، وتعهد إيران بالتخلي عن قدراتها النووية.
انغلاق إيراني على إطاحة الأميركيين مصدق
بالنسبة إلى الإيرانيين، انغلقت القيادة السياسية والدينية في فكرة أن الولايات المتحدة تحارب أي نفوذ سياسي لها، فذهب الخطاب الدعائي الإيراني إلى تعظيم الإحساس بالخطر والتهديد، الذي وفر دوما قوة دافعة للصراع ضد واشنطن، فإيران تستدعي في هذا الصراع أحداثاً ترجع إلى ما قبل اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979، وبالتحديد إلى عام 1953، بُغية إقناع الشعب الإيراني أن واشنطن ترفض أي استقلالية وطنية، وليس فقط النظام الحالي، فتُكرر أن المخابرات المركزية الأميركية “سي آي إيه” دبّرت بالتعاون مع جهاز الاستخبارات البريطاني “إم أي 6” انقلاباً ضد رئيس الوزراء المنتخب ديموقراطياً “محمد مصدق”، وهو انقلاب اعترفت الولايات المتحدة بتدبيره بعد ستين عاماً خلال حكم الرئيس أوباما.
ورغم الاختلاف الأيديولوجي بين النظام الديني الحالي وما حمله “محمد مصدق” من أفكار علمانية إصلاحية مدنية، فإن طهران أرادت أن تستغل الشعبية الواسعة، التي حظى بها خلال سنوات حكمه القليلة في الخمسينيات بتحديه النفوذ البريطاني عبر تأميم شركة النفط الأنغلو – إيرانية، لتذكير الإيرانيين بأن الولايات المتحدة تخلت عن مبادئها الليبرالية من أجل مصالحها السياسية، وطعنت الدولة الإيرانية، بينما كانت تحاول تحقيق استقلالها عن القوى العظمى.
رسالة تريد بها طهران تشبيه نظامها الحالي بنظام مصدق، من دون أن تذكر الدوافع التي حرّكت واشنطن لإطاحة مصدق بعد تردد طويل ورفض محاولات البريطانيين، وهي اقترابه من حزب “توده” الشيوعي المدعوم من السوفييت، وخشية واشنطن من امتداد النفوذ السوفييتي وسيطرته على إيران التي كانت حليفة للغرب آنذاك.
ومن الغريب أن السلطات الإيرانية تتناسى أن إدارة رونالد ريغان حذّرتها في الثمانينيات من عناصر لحزب “توده” تغلغلت في مراكز مهمة لصناعة القرار داخل إيران، وأن طهران تخلّصت منهم جميعاً تماماً مثلما فعلت الولايات المتحدة في الخمسينيات.
لكن النظام الإيراني يمارس لعبة المصلحة السياسية باحتراف، يُظهر أن الولايات المتحدة أثبتت شأنها شأن البريطانيين أنها قوة استعمارية بجريمة التدخل في شؤون دولة أخرى لإطاحة نظام دولة وطنية وليدة بما يتعارض مع ما اكتسبه الأميركيون من سمعة عالمية بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية بتحديهم الإرث الاستعماري، ودفاعهم عن مبادئ الحكم الذاتي للشعوب.
هذه الصورة الإيجابية عن الولايات المتحدة ترسّخت بقوة داخل إيران في بدايات القرن العشرين حينما كانت إيران تنظر بعين من التوجس إلى روسيا وبريطانيا، فلجأ الشاه إلى الأميركيين، ورشحوا له “مورغان شوستر” و”آرثر ميلسبورغ” ليعينهما أمينَين عامين على وزارة المالية بُغية تحسين إدارتها، التي كانت تعاني خللاً كبيراً.
هذه السمعة الطيبة للولايات المتحدة كمدافع عن استقلال الشعوب، لم تتآكل تماماً حتى بعد إطاحة مصدق، لكن النظام الحالي عَمَل على تشويه هذه السمعة عبر الربط بين علاقة الشاه السابق محمد رضا بهلوي بواشنطن قبل 1979، وتعتبر أن الثورة الإسلامية ليست إلا عملية تصحيحية لما حدث عام 1953 من رفض أية علاقات غير متوازنة مع القوى العظمى.
وتكتسب هذه الرواية زخماً داخل إيران بأن واشنطن دعمت الرئيس العراقي صدام حسين بعد مهاجمته إيران عام 1980، وصمتت على استخدامه أسلحة مُحرمة دولياً، ما يجعل مهمة النظام الإيراني في تصوير الولايات المتحدة بأنها خانت مبادئها وتعاونت مع قوة خارجية للإطاحة بالنظام الحاكم في إيران مهمة سهلة.
يدعم الرؤية الإيرانية في تسويق العداء لأميركا، “قانون حرية ودعم إيران” الذي أقره الكونغرس عام 2006، ورفض واشنطن دعوات الرئيس السابق أحمدي نجاد بالحوار لإنهاء النزاع حول الملف النووي واشتراطها إنهاء دعم طهران الجماعات الإرهابية.
انعكست سياسة تعظيم العداء الإيرانية ضد الولايات المتحدة على الشعب الإيراني، إذ أظهر استطلاع للرأي أُجري في ديسمبر (كانون الأول) الماضي أن “81% من الإيرانيين لديهم رؤية سلبية عن الحكومة الأميركية وليس الشعب الأميركي”.
مستقبل حالك السواد
ولكل ذلك، اتخذت طهران سياسة المواجهة مع الولايات المتحدة مدفوعة بسياق سياسي وخطاب إعلامي يجتر الماضي الأليم، فاعتبرت أن القيادة المركزية الأميركية منظمة إرهابية، وأسقطت طائرة أميركية مسيّرة بدعوى أنها اخترقت المجال الجوي لإيران، وتهدد الآن بخرق الاتفاق النووي إذا لم يخفف الأوروبيون من آثار العقوبات الأميركية على إيران.
لا علاقة رسمية بين الولايات المتحدة وإيران منذ قطع العلاقات عام 1980 رغم أن العلاقات تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، لكن الأجواء السلبية والماضي الأليم الذي طبع العلاقات على مدى 40 عاماً، يجعل إمكانية معالجة الصراع صعبة في المستقبل، ولن يكون هناك سوى قليل من التأييد داخل الكونغرس الأميركي وبين أوساط الشعب لاتخاذ موقف لين تجاه إيران.
اندبندت