في السنوات الأخيرة، كثف «حزب الله» أنشطته خارج حدود لبنان. وتجلى هذا التنامي بأوضح صوره في الشرق الأوسط، ولكن تم أيضاً إحباط مؤامرات الحزب في أمريكا الجنوبية وآسيا وأوروبا، وربما اليوم في الولايات المتحدة.
إن التقارير المعنية بأنشطة «حزب الله» في أمريكا الشمالية ليست جديدة، على الرغم من أن مثل هذه التقارير غالباً ما تركز على أنشطة جمع التبرعات أو تبييض الأموال أو المشتريات أو غيرها من الأنشطة اللوجستية للحزب، بدءاً من فانكوفر ووصولاً إلى ميامي. لكن في الشهر الماضي، كشفت الملاحقة الجنائية والإدانة في نيويورك لعضو «حزب الله» علي كوراني معلومات جديدة مثيرة للقلق حول مدى تغلغل عمليات «حزب الله» وأنشطته في الولايات المتحدة وكندا.
لقد دفع اعتقال كوراني وعنصر آخر من «حزب الله» هو سامر الدبك عام 2017، مجتمع الاستخبارات الأمريكي إلى إعادة النظر في تقييمه الطويل الأمد بأنه من غير المرجح أن يهاجم «حزب الله» الأراضي الأمريكية ما لم يلاحظ التنظيم بأن واشنطن تتخذ إجراءات تهدد كيانه أو كيان الدولة الراعية له وهي إيران. فبعد اعتقال كوراني والدبك، قال مدير “المركز الوطني الأمريكي لمكافحة الإرهاب” في تشرين الأول/أكتوبر 2017: “وفقاً لتقييمنا أن «حزب الله» مصمم على منح نفسه خياراً محتملاً في الأراضي الأمريكية كعنصر حاسم من أجندته الإرهابية”.
وفي ذلك الوقت، لم يُعلَن سوى القليل من المعلومات الكامنة وراء هذا التقييم الجديد، ولكن في 16 أيار/مايو، أصدرت هيئة محلفين في نيويورك أحكاماً بالإدانة في جميع التهم الواردة في لائحة الاتهام ضد كوراني، من بينها التهم الإرهابية المتعلقة بمراقبته لـ “مكتب التحقيقات الفيدرالي” و”مكاتب المخابرات الأمريكية”، فضلاً عن مستودع أسلحة للجيش الأمريكي، وهي أهداف تقع كلها في مدينة نيويورك. (الدبك لم يقدم للمحاكمة بعد.)
أنجز كوراني أنشطة تنفيذية أخرى كعميل نائم على المدى الطويل، يعمل لصالح وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في «حزب الله»، المعروفة باسم “منظمة الجهاد الإسلامي” [“جماعة الجهاد الإسلامية”]، والتي شملت تحديد هوية الإسرائيليين في نيويورك الذين يمكن لـ «حزب الله» استهدافهم والوصول إلى أشخاص يمكنه شراء أسلحة منهم ليقوم «حزب الله» بتخزينها في المنطقة.
نفذ كوراني معظم أنشطته في الولايات المتحدة، ولكن «حزب الله» أرسله أيضاً إلى الصين، حيث سبق أن قام التنظيم بشراء مواد كيميائية تستخدم في صنع قنابل من النوع الذي صنعه في بلغاريا وقبرص وتايلاند. وأسفر تفجير عام 2012 في بورغاس في بلغاريا، عن مقتل 7 أشخاص، بمن فيهم منفذ التفجير و32 جريحاً، وتم العثور على مواد كيميائية تفجيرية من النوع ذاته في تايلاند عام 2012 وفي قبرص عامي 2012 و2015، حيث أحبطت مخططات لعمليات تفجيرية. كما أرسل «حزب الله» كوراني في مهام تنفيذية إلى كندا. ووصف كوراني نفسه في مقابلات مع عملاء “مكتب التحقيقات الفيدرالي” بأنه جزء من “خلية نائمة”.
وقال مساعد المدعي العام الأمريكي للأمن القومي جون ديمرز: “أثناء تواجده في الولايات المتحدة، عمل كوراني كعنصر ناشط في «حزب الله» لمساعدة المنظمة الإرهابية الأجنبية على إعداد هجمات مستقبلية محتملة ضد الولايات المتحدة”.
وشملت الأهداف مبانٍ تضم “مكتب التحقيقات الفيدرالي” و”مكتب المخابرات الأمريكية” في مانهاتن، بالإضافة إلى “مطار جون إف كينيدي الدولي” في نيويورك ومستودع أسلحة تابع للجيش الأمريكي.
وينتمي كوراني إلى عائلة معروفة في دوائر «حزب الله»، وقد وصفها لـ “مكتب التحقيقات الفيدرالي” على أنها “جماعة بن لادن الخاصة بلبنان”. وقد التحق للمرة الأولى بمعسكر تدريب لـ «حزب الله» في سن المراهقة، لكن الجماعة جندته في صفوف “منظمة الجهاد الإسلامي” (IJO) النخبوية فحسب، وهي وحدة العمليات الخارجية التابعة لـ «حزب الله»، والمعروفة باسم “الوحدة 910″، وذلك في كانون الثاني/يناير 2008، أي قبل شهر من اغتيال قائد “منظمة الجهاد الإسلامي” والإرهابي التابع لـ «حزب الله» والمدرج لفترة طويلة على قوائم المطلوبين دولياً، عماد مغنية، في إطار ما تم الكشف عنه لاحقاً على أنه عملية أمريكية إسرائيلية مشتركة.
وترجع أهمية توقيف كوراني إلى توقيت توقيفه كونه يكشف أن «حزب الله» كان يتطلع حتى قبل اغتيال مغنية، إلى إعادة بناء شبكاته الإرهابية الدولية. كما يُعدّ خطوة مهمة لأنه يضع كوراني في المكان المناسب وفي الوقت المناسب. فمن خلال مقطع فيديو تم بثه في جنازة مغنية، أصدر الأمين العام لـ «حزب الله»، حسن نصر الله، تهديداً شبه علني مفاده أن هناك هجمات ستحصل في الخارج، قائلاً: “مع هذا الاغتيال، توقيته وموقعه وطريقة تنفيذه، أقول للصهاينة: إذا كنتم تريدون هذا النوع من الحرب المفتوحة، ليسمع العالم كله: فلتكن هذه الحرب مفتوحة”.
وبعد ذلك بوقت قصير، بدأ كوراني عمله السري لحساب “منظمة الجهاد الإسلامي” في الخارج. وقال كوراني لـ “مكتب التحقيقات الفيدرالي” إن «حزب الله» كان “يسعى بشكل مستميت للثأر لمقتل مغنية”.
عقد كوراني اجتماعات متعددة مع عملاء “مكتب التحقيقات الفيدرالي” عند تقربهم منه في أيلول/سبتمبر 2016 قائلين إنهم يعلمون أنه يعمل لصالح «حزب الله». وادعى كوراني أنه يسعى إلى عقد صفقة مقابل إعادة جمعه بزوجته وأطفاله، الذين هجروه وأصبحوا يقيمون في كندا. ولم تُعرض عليه هذه الصفقة. فضلاً عن ذلك، احتفظ كوراني بمعلومات أساسية وحاول استغلال هذه الاجتماعات لاستنباط معلومات من العملاء الذين قابلوه. كما تضمنت الأدلة في محاكمته مواداً من حاسوبه المحمول وبريده الإلكتروني وسجلات فيسبوك الخاصة به، بالإضافة إلى ملاحظات ومواد أخرى تمت مصادرتها من شقته.
وكانت خطوته الأولى الحصول على الجنسية الأمريكية وعلى جواز سفر أمريكي، الأمر الذي قام به بتوجيه من «حزب الله» عام 2009. وبالطبع، لم يذكر الظروف في الاستمارة حيث سئل ما إذا كانت تجمعه روابط بأي منظمة إرهابية. فكوراني كان قد حصل سابقاً على إقامة قانونية عن طريق والده. ولاحقاً، في عام 2013، قدم طلباً للحصول على بطاقة جواز سفر تسمح له بعبور الحدود الأمريكية-الكندية أو الأمريكية-المكسيكية بواسطة بطاقة هوية تكون في حوزته متى احتاجها. وهكذا، إذا صادرت السلطات جواز سفره الأمريكي أثناء تواجده في الخارج، فسيستطيع التسلل مرة أخرى إلى الولايات المتحدة من خلال السفر إلى كندا أو المكسيك بواسطة جواز سفره اللبناني والعودة إلى الولايات المتحدة براً بواسطة البطاقة.
كما حذر كوراني عملاء “مكتب التحقيقات الفيدرالي” من أن “منظمة الجهاد الإسلامي” التابعة لـ «حزب الله» “هي حتى أكثر نشاطاً في كندا من الولايات المتحدة”، وفقاً لما قال أحد عملاء “مكتب التحقيقات الفيدرالي” الذين قابلوه خلال محاكمته. وفي الواقع، احتلت كندا مكانة كبيرة في خطط كوراني العملياتية. ففي عام 2012، تزوج من مواطنة كندية لبنانية تحمل جنسية مزدوجة، وابتعد لاحقاً عنها وعن أولاده منها، ولكن آنذاك، كما أوضح “مكتب التحقيقات الفيدرالي”، ناقش مع المسؤول عنه في «حزب الله» الفائدة العملية المنبثقة عن إقامة روابط عائلية مع كندا، على وجه التحديد، حيث “لن يثير الشبهات إذا ما أراد السفر إلى كندا بشكل منتظم”.
وخلص ممثلو الادعاء إلى أن كوراني والمسؤول عنه وجدا منافع خاصة في إقامة كوراني روابط مع كندا “لكي يستطيع السفر ذهاباً وإياباً من كندا وإليها لإنجاز العمليات”. وناقشا أيضاً إمكانية نقل كوراني للمراسلات أو لعناصر إلى كندا، الأمر الذي يصر كوراني على عدم قيامه به على الإطلاق. ولكن الاثنين ناقشا بالتحديد تقنيات التجسس التي سيعتمدها كوراني لتمرير رسائل إلى «حزب الله»، بواسطة نقاط تسليم سرية “ميتة” حتى لا يتمكن هو وعناصر «حزب الله» المحليين التعرف إلى بعضهم البعض، وفقاً لما وصفه كوراني لـ “مكتب التحقيقات الفيدرالي” على أنه “القاعدة الذهبية” لـ “وحدة 910”: “كلما قّلت معرفتك، كلما كان ذلك أفضل”.
تلقى كوراني تدريباً جيداً على أساليب “الوحدة 910″، بما أن المسؤول عنه في “منظمة الجهاد الإسلامي” التابعة لـ «حزب الله» كان فادي كساب، وهو الرجل الذي وصفه كوراني، وفقاً لعملاء “مكتب التحقيقات الفيدرالي”، على أنه “مسؤول عن عناصر «منظمة الجهاد الإسلامي» في كل من الولايات المتحدة وكندا”. فعلى الرغم من تمركزه في لبنان وتشغيله كوراني كعميل في نيويورك، اضطلع كساب بأدوار ناشطة في هجوم «حزب الله» في بلغاريا عام 2012، وفقاً للإفادات التي أدلى بها كوراني لعملاء “مكتب التحقيقات الفيدرالي”.
وكانت إحدى المهام التي كلف «حزب الله» كوراني بتنفيذها هي جمع معلومات مفصلة عن مطارين دوليين هما “مطار جون إف كينيدي الدولي في نيويورك” و”مطار بيرسون الدولي في تورنتو”. وبناء على وثائق سفر كوراني، كشف ممثلو الادعاء الأمريكيون أنه سافر عبر مطار نيويورك 19 مرة وعبر مطار بيرسون 7 مرات.
واعترف كوراني لـ “مكتب التحقيقات الفيدرالي” أنه قدم لـ «حزب الله» تفاصيل حول الإجراءات الأمنية والزي الرسمي الذي يرتديه ضباط الأمن، وما إذا كان الضباط مسلحين أم لا. وأفاد كوراني لـ “مكتب التحقيقات الفيدرالي” أنه ركز على رصد نقاط الخروج ونقاط التفتيش الأمنية ومواقع الكاميرات وإجراءات استلام الأمتعة، بالإضافة إلى الأسئلة التي يطرحها موظفو المطار المسؤولون عن التدقيق الأمني والتفتيش على الركاب.
وبالإضافة إلى المراقبة التي كان كوراني يقوم بها بنفسه، فقد سعى أيضاً إلى الحصول على معلومات من موظفي المطار، وأدرك بعضهم أنه يقدم معلومات لـ «حزب الله» بينما لم يدرك آخرون الفخ الذي وقعوا فيه. على سبيل المثال، أخبر كوراني “مكتب التحقيقات الفيدرالي” عن أحد الموظفين في مطار في كندا، الذي قدم على ما يبدو عن غير قصد معلومات لكوراني عن أمن المطارات الكندية. فكوراني كان يدخن الشيشة مع هذا الموظف، الذي كان يجيبه أثناء الدردشة عن أسئلته حول مواقع الكاميرات ومقاييس المغناطيسية. وقال كوراني ساخراً إنه كان بإمكانه أن يطلب من الرجل حمل حقيبة عنه على متن طائرة، وكان الأخير ليلبي طلبه.
ووفقاً لمرافعة المدعي العام الأمريكي أثناء المحاكمة، كان «حزب الله» “يفكر في كيفية تمرير الإرهابيين والأسلحة والمواد المهربة عبر المطارات، من لبنان إلى كندا، ومن لبنان إلى الولايات المتحدة”.
ويستذكر عميل كان يقابل كوراني خلال أحد لقاءاته مع “مكتب التحقيقات الفيدرالي” أن الأخير “جلس في كرسيه، رفع كتفيه [أمام العملاء الذين يقابلونه] وقال: “أنا عضو في «وحدة 910»، المعروفة أيضاً بـ «منظمة الجهاد الإسلامي» أو عمليات «حزب الله» السرية. تخضع الوحدة لإمرة إيران”. وضمن «حزب الله»، تقدم الوحدة تقاريرها مباشرة إلى نصر الله، وفقاً لكوراني، ولكن إيران تشرف على عملياتها.
في تسعينيات القرن الماضي، قللت وكالات الاستخبارات الأمريكية من احتمال قيام «حزب الله» بمهاجمة المصالح الأمريكية، ما لم تهدد واشنطن «حزب الله» مباشرةً. وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، بدأت الجهود الأمريكية المتزايدة لمكافحة الإرهاب بالتأثير على «حزب الله». وبعد مرور عام، أبلغ “مكتب التحقيقات الفيدرالي” الكونغرس عام 2002 أنه “وفقاً لبعض التقارير، تم تكليف عناصر «حزب الله» بمراقبة أهداف محتملة في الولايات المتحدة”. ولكن في تلك الحالات الماضية، خلصت تحقيقات “مكتب التحقيقات الفيدرالي” إلى أنه “يبدو أن هذه المهام حتى الآن، كانت تهدف إلى التحقق من ولاء الفرد لـ «حزب الله» وإيران”. وبعد ست سنوات، تم اغتيال مغنية، مباشرةً بعد تجنيد كوراني في “منظمة الجهاد الإسلامي”. وبحلول ذلك الوقت، كانت قد ولّدت مهام المراقبة ما قبل العمليات التابعة لـ “منظمة الجهاد الإسلامي” تداعيات عملية أكثر بكثير بسبب رغبة «حزب الله» في الثأر لمقتل مغنية. وتغيرت أهداف «حزب الله» بشكل كبير بين عامي 2002 و2008. وأعلم كوراني “مكتب التحقيقات الفيدرالي” أن “هناك بعض السيناريوهات التي تتطلب اتخاذ إجراءات أو تحركات من قبل أعضاء الخلية”، مشيراً إلى أنه إذا حدثت حرب بين الولايات المتحدة وإيران، فمن المتوقع أن يتم إيقاظ الخلية النائمة في الولايات المتحدة. وأضاف كوراني أنه إذا اتخذت الولايات المتحدة بعض الإجراءات غير المحددة التي تستهدف «حزب الله» أو حسن نصر الله نفسه أو المصالح الإيرانية، “ففي تلك السيناريوهات، سيتم إيقاظ الخلية النائمة أيضاً”.
وبالطبع، اتخذت الولايات المتحدة إجراءات تتعارض مع المصالح الإيرانية ومصالح «حزب الله»، مثل الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني وإعادة فرض عقوبات شاملة على إيران ومعاقبة «حزب الله» والمشاركة في اغتيال عماد مغنية، على سبيل المثال لا الحصر، ولم ينفذ عناصر “منظمة الجهاد الإسلامي” قط أي تفجير أو عملية إطلاق نار في أمريكا الشمالية.
وخلال السنوات القليلة الماضية تم إحباط مؤامرات «حزب الله» في بيرو وبوليفيا، ولكن الكشف عن قيام «حزب الله» بأنشطة مراقبة مكثفة في الولايات المتحدة وكندا خلال السنوات القليلة الماضية – والتي ترتبط بشكل صريح بنيّة التنظيم الانتقام لمقتل مغنية – أمر مقلق للغاية. فقد تجاوز «حزب الله» العتبة وهو، كحد أدنى، يطوّر شبكات في أمريكا الشمالية قادرة على تنفيذ هجمات إذا ارتأت قيادة التنظيم أنها ضرورية.
معهد واشنطن