في غضون ساعات أصبحت مدينة “بحر دار” -عاصمة إقليم أمهرا الإثيوبي (500 كلم عن العاصمة أديس أبابا)- محط أنظار العالم، إثر محاولة الانقلاب الفاشلة التي أسفرت عن مقتل خمسة من كبار مسؤولي الحكومة والجيش، منهم رئيس أركان الجيش الجنرال سعري مكنن، وحاكم إقليم أمهرا أمباتشو مكنن الذي عين في مارس/آذار الماضي خلفا لجدو أندارجاشيو الذي تولى منصب وزير الخارجية.
جرت محاولة الانقلاب في شكل هجومين منفصلين بدآ من مدينة “بحر دار” عندما اقتحمت مجموعة مسلحة في الساعة 6:30 من مساء السبت الماضي مقر حكومة الإقليم أثناء اجتماع لبعض أعضاء الحكومة، مما أسفر عن مقتل حاكم الإقليم ومستشاره والمدعي العام، متأثرين بجراحهم خلال تبادل لإطلاق النار. وبعد ثلاث ساعات قتل في العاصمة أديس أبابا الجنرال سعري مكنن ولواء متقاعد -تصادف وجوده في مقر الأول- على أيدي أحد الحراس الشخصيين لرئيس الأركان.
اتهمت الحكومة الإثيوبية رئيس جهاز الأمن في الإقليم الجنرال أسامنيو صيغي بتدبير المحاولة الانقلابية، وقد قتل بعد 36 ساعة من فشلها إثر عملية مطاردة للقبض عليه، في حين أكدت الحكومة أن الهجومين مرتبطان بعضهما ببعض، حيث كان سبب مقتل سعري مكنن هو دوره الكبير في إفشال محاولة الانقلاب.
عاصر الجنرال المتمرد أسامنيو صيغي ثلاثة أجيال من قادة الحكومة الإثيوبية، حيث سبق أن عمل ضابطا في جيش “الدرق” بقيادة الرئيس الأسبق منغستو هيلي ماريام، قبل أن يقع أسيرا في أيدى الثوار الإثيوبيين الذين أطاحوا بنظام الدرق عام 1991. وبعد وصول “الائتلاف الحاكم” للسلطة برئاسة ملس زيناوي عام 1993، أعيد صيغي إلى الجيش، أسوة بالكثير من الضباط والجنود الذين أعيدوا بعد إعادة تأهيلهم.
بيد أن شهر عسل الجنرال لم يدم طويلا، ففي العام 2007 ألقي القبض عليه بتهمة المشاركة في انقلاب ضد حكومة زيناوي، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2009 أدانته المحكمة الاتحادية ضمن 38 شخصا بالتخطيط لانقلاب واغتيال مسؤولين حكوميين، والانتماء إلى حركة “جنبوت سبات”، وهي مجموعة معارضة مسلحة كانت ضمن قائمة الإرهاب لدى الحكومة وقتها، وحكم عليه حينها بالسجن المؤبد.
ومع وصول أبي أحمد إلى السلطة في أبريل/نيسان 2018 أعلن عفوا عاما على كافة السجناء السياسيين، خرج بموجبه الجنرال صيغي من السجن. وفي يونيو/حزيران 2018 أجرى أبي أحمد تغييرات جذرية في المؤسسة العسكرية والأمنية عين بموجبها الجنرال سعري مكنن رئيسا لأركان الجيش خلفا للجنرال سامورا يونس، وعين قائد القوات الجوية آدم محمد رئيسا لجهاز المخابرات والأمن خلفا لجيتاتشو أسافا.
كما شملت التغييرات إعادة الرتب والألقاب العسكرية لكل من قائد القوات الجوية الإثيوبية السابق الجنرال الميشيت دغفي، والجنرال صيغي، مما أمكنه لاحقا من شغل منصب رئيس جهاز الأمن في إقليم أمهرا.
ينحدر الجنرال المتمرد صيغي من إقليم أمهرا الذي يمتلك أهمية كبيرة حيث يعتبر الثاني في إثيوبيا من حيث المساحة وعدد السكان. ويترأس حكومة الإقليم حزب شعب أمهرا الديمقراطي، أحد أحزاب الائتلاف الحاكم، وتعد لغة الإقليم اللغة الرسمية للجمهورية الإثيوبية. أما عاصمة الإقليم فهي مدينة “بحر دار”، وبها بحيرة تانا منبع النيل الأزرق.
وينتمي إلى الإقليم العديد من النخب الحاكمة لإثيوبيا، وكان الإقليم قد شارك جنبا إلى جنب مع إقليم أورومو في الاحتجاجات المناهضة للحكومة السابقة، التي استمرت عامين، وأدت إلى وصول أبي أحمد إلى السلطة.
وحول ما إن كان للانقلاب أي صلة بأيد خارجية، استبعد الكاتب الإثيوبي راجي برهانو هذا الفرضية تماما، مفيدا في حديثه للجزيرة نت بأن الخطوة “تأتي في سياق التطرف والتحريض العرقي الذي كان يمارسه الجنرال أسامنيو صيغي”، ومشيرا إلى أن غالبية المعطيات تؤكد أن المحاولة كانت رد فعل من جانب أسامنيو على خطة من حكومة الإقليم لتحجيمه بعد دوره المتنامي في الشحن العرقي ضد القوميات الأخرى.
وكانت إثيوبيا قد شهدت مؤخرا صراعات عرقية بين الأقاليم حول الأراضي والموارد، ومع صعوبة ترسيم الحدود بينهما نظرا لاعتماد المجتمعات المتجاورة على الرعي والزراعة وما يتطلبه ذلك من ارتحال واستخدام واسع للبيئة حال دون إمكانية ترسيم خط متين، اتجهت بعض المجموعات العرقية إلى سياسة وضع اليد على الأرض، مما أسهم في نشوء الصراعات العرقية ونزوح السكان، مثل الصراع الذي حدث بين إقليم أمهرا وإقليم التجراي.
استقلالية كبيرة
وفيما يتعلق بطبيعة الانقلابات، وأنها عادة ما تحدث على مستوى المركز لا الإقليم، قال راجي برهانو إن هذا الأمر ينطبق على الدول ذات الطابع المركزي، بيد أن إثيوبيا دولة اتحادية، وكل إقليم يتمتع باستقلالية كبيرة، وبالتالي فإن الانقلاب الإقليمي بلا شك سيكون له تأثير -وإن كان محدودا- على إدارة وسياسة الحكومة الاتحادية، وهذا يعتبر في حد ذاته انقلابا على وضع قائم، خاصة أن الجنرال أسامنيو كان يسعى لتنحية رئيس الحكومة الإقليمية وحشد أنصاره، قبل أن تحبط محاولته من قبل القوات الإقليمية والاتحادية.
يشار إلى أن إثيوبيا تحكم بنظام الفدرالية الإثنية الذي تم التنصيص عليه دستوريا عام 1994 كبديل لمركزية الدولة، حيث تم إعلان إثيوبيا جمهورية اتحادية مكونة من تسعة أقاليم، يتمتع كل إقليم بأغلب خصائص ومؤسسات الدولة، مع تنازله عن جزء من السيادة لصالح مؤسسات اتحادية تتولى الحماية ولا تتدخل في الشؤون الداخلية.
وبينما لا تزال خدمة الإنترنت متوقفة في كافة أرجاء إثيوبيا، أكدت بيلين سيوم السكرتيرة الصحفية لرئيس الوزراء أن إقليم أمهرا يشهد استقرارا كليا، وأنه تم استعادة الأمن والاستقرار، حيث بدأت كافة المؤسسات والمدارس والمحلات التجارية أعمالها، مشيرة في حديثها للجزيرة نت أنه تم القبض على معظم المشاركين في العملية الانقلابية.
وحول تأثير الأحداث في إثيوبيا على جهود ووساطة رئيس الوزراء الإثيوبي في السودان، قالت سيوم إن الأخير ملتزم ومتعهد بتحقيق الاستقرار في الإقليم ككل، والجهود في السودان جزء من التزامه في هذا الصدد، مبينة أنه لا يمكن الحديث عن الاستقرار في إثيوبيا بدون الحديث عن الاستقرار في دول الجوار.
المصدر : الجزيرة