انتهت معركة إعادة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول بنتيجتين: ظهور قائد سياسي شاب، لم يكن معروفاً حتى قبل أشهر قليلة، وهو أكرم إمام أوغلو، وهزيمة كبيرة للرئيس رجب طيب أردوغان قبل مرشحه بن علي يلدريم في هذه الانتخابات، فللمرة الأولى، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، يتعرّض لمثل هذه الخسارة القاسية، في مدينةٍ انطلق منها أردوغان سياسياً، وقال عنها إن من يفز بها يحكم تركيا. وفي الواقع، فتحت معركة إسطنبول الانتخابية الطريق واسعاً أمام سطوع نجم إمام أوغلو، فهو، بنظر المراقبين، بات الشخص القادر على منافسة أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ولعل سطوع نجمه على هذا النحو السريع يطرح أسئلة كثيرة عن الوصفة التي يمتلكها هذا الرجل، والذي يتشارك مع أردوغان في نقاط عديدة، أهمها، الجذور من طربزون، وحب كرة القدم، والانطلاق من إسطنبول كرئيس بلدية في بناء مسيرة الحياة السياسية. والهدوء من أهم صفات إمام أوغلو، وكذلك الحرص على الخطاب الجامع، والابتعاد عن الاستقطاب والأيديولوجيا، فالرجل المنظم في حزب يساري علماني (الشعب الجمهوري)، يتسم بالمحافظة، ويمارس واجباته الدينية. وبفضل ذلك، نجح في استقطاب شرائح واسعة من المحافظين والإسلاميين، حتى من حي الفاتح المعروف بحبه وولائه لأردوغان. كما أن إمام أوغلو المحسوب على الأيديولوجيا الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك)، والتي أنكرت، عبر تاريخ الجمهورية التركية، وجود هوية كردية في البلاد، وأقصتها من المشهد التركي العام، لم يجد مانعاً بعد فوزه، في توجيه الشكر للكرد، وللزعيم السابق لحزب الشعوب الديمقراطية المعتقل، صلاح الدين ديميرداش، بل للمرة الأولى، يرفع زعيم سياسي تركي صورة زعيم كردي، ويشيد به (إمام اوغلو حمل صور ديميرداش)، بعد أن كان ديميرداش قد دعا بوضوح إلى التصويت لإمام أوغلو، عقب أحاديث نُسبت إلى زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، دعا فيها الكرد إلى الحياد في هذه الانتخابات.
وكانت لافتة أيضاً دعوة إمام أوغلو الرئيس أردوغان إلى التعاون، وإبداء الاستعداد لذلك، من
“الهدوء من أهم صفات إمام أوغلو، وكذلك الحرص على الخطاب الجامع، والابتعاد عن الاستقطاب والأيديولوجيا” أجل خريطة طريق للنهوض بإسطنبول وأهلها. وعلى هذه الأرضية والممارسة السياسية، ينجح إمام أوغلو في تقديم نفسه رجلاً من خارج الطبقة السياسية التقليدية، فيجد نفسه جامعاً للكرد والترك، وفي منأى من تداعيات الانقسام والاستقطاب الأيديولوجيين. في المقابل، تبدو الصورة في جبهة الرئيس أردوغان مختلفة، فرجله القوي بن علي يلدريم، القادم من رئاسة البرلمان، ومن قبل من رئاسة الحكومة، خسر أمام رجلٍ لم يكن له سجل سياسي قبل أشهر قليلة، وحزب العدالة والتنمية الذي يقوده بات كأنه مجموعة أحزاب أو تكتلات داخل حزب واحد، فهناك تكتل القادة الكبار والمؤسسين، من أمثال عبد الله غل وأحمد داود أوغلو وعلي بابا جان، والذين بدأوا يرفعون الصوت عالياً في وجه أردوغان. وهناك تكتل رجال الأعمال داخل الحزب، والذي باتت أولويته الحصول على المشاريع والامتيازات، وهناك الرئيس أردوغان الذي يشكل وحده تكتلاً، إن لم نقل الحزب نفسه، فيما بات جسم الحزب يتأرجح بين هذه الكتل، ليفقد (الحزب) الوظيفة الأساسية التي قدم نفسه من أجلها عند تأسيسه، وهي تقديم نموذج يوفق بين الإسلام والديمقراطية والاقتصاد. يتزامن هذا الواقع الجديد لحزب العدالة والتنمية مع تحدياتٍ كثيرة، تبدأ بالتعثر الاقتصادي، وانهيار مستوى معيشة المواطن التركي، وقد لا تنتهي بالخلاف الأميركي – التركي على صفقة إس 400، والتهديد الأميركي بفرض عقوباتٍ على تركيا إذا مضت الأخيرة في إتمام هذه الصفقة مع روسيا.
بعد معركة رئاسة بلدية إسطنبول، تبدو تركيا أمام مرحلة جديدة من الدينامية السياسية الداخلية، على شكل فرصة حقيقية لتعزيز الديمقراطية، وإنهاء الاستقطاب السياسي والأيديولوجي والاجتماعي، وتحقيق المصالحة التركية ــ الكردية. ولعل هذا كله يتوقف على كيفية تعاطي الرئيس أردوغان مع إمام أوغلو في المرحلة المقبلة، وما قدّمه الأخير من رسائل سياسية حتى الآن.
العربي الجديد