قبل يومين خطا الرئيس الأميركي دونالد ترامب “خطوات تاريخية” في أراضي كوريا الشمالية -الغريم التقليدي لبلاده- ليكون أول رئيس أميركي يطأ هذه الأرض وهو في منصبه، لكنه بدا كمن دخلها “من النافذة” لا من “أوسع أبوابها”.
فترامب، وهو في اجتماعات قمة العشرين التي انعقدت في مدينة أوساكا باليابان يومي الجمعة والسبت الماضيين، غرد معبرا عن رغبته في لقاء الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في المنطقة المنزوعة السلاح بين الكوريتين، إن كان ذلك يناسبه. وجاء الرد من بيونغ يانغ بالقبول، وكان “اللقاء التاريخي” يوم السبت بين ترامب وكيم في منطقة بانمونغوم الحدودية.
عبور ترامب إلى الطرف الآخر من الحدود لم يكن بدعوة من كيم، بل هو من طلب ذلك حسب ما أوردته وكالات الأنباء بقوله: هل يمكنني عبور الحدود؟ فرد عليه كيم بأن ذلك “شرف”، فخطا الرجلان خطوات في الجانب الكوري الشمالي من الحدود، ثم عادا بخطوات مماثلة إلى الجانب الكوري الجنوبي.
مصافحة ترامب وكيم وخطواتهما جنبا إلى جنب وتبادلهما الابتسامات والتحايا، وإدلاؤهما بتصريحات مقتضبة يشكر فيها بعضهما بعضا، كل ذلك أعاد إلى الأذهان مسارا من العلاقة بين الرجلين بدآه بتبادل الشتائم والسباب على الملأ، ووصلا به حد الآن إلى تبادل الابتسامات واللقاءات وعبارات الثناء والشكر.
فحتى قبل أن يتولى الرئاسة بداية العام 2017، كان ترامب يتوعد كوريا الشمالية وزعيمها بمزيد من العقوبات، وكان ينتقد في حملته الانتخابية ما كان يسميه “الصبر الإستراتيجي” لسلفة باراك أوباما تجاه بيونغ يانغ ويتهمه بالضعف أمامها.
وفي العام الأول من حكمه للولايات المتحدة سخر ترامب “منصة” تويتر ليطلق منها صواريخه على كيم، ففي فبراير/شباط من العام نفسه هدد ترامب كوريا الشمالية إن استمرت في تجاربها النووية، وفي صيف السنة نفسها أعلن كيم أن الولايات المتحدة في مرمى صواريخ بلاده، وبدوره رد الرئيس الأميركي بفرض عقوبات على كوريا الشمالية وتوعد بالرد “بالنار والغضب” على أي هجوم كوري شمالي.
كيم وصف ترامب آنذاك بأنه “رجل عجوز”، ورد عليه الآخر بأنه “قصير وسمين”، ولقبه بـ”رجل الصواريخ الصغير”، وأنه “مجنون”، وهدده بأنه “لن يبقى طويلا”، وذلك في سياق رده على تصريحات لوزير الخارجية الكوري الشمالي ري يونغ هو وصف فيها ترامب بأنه “شخص مختل عقليا يعاني من جنون العظمة والإعجاب بالذات”، ويحاول تحويل الأمم المتحدة إلى “وكر عصابات”.
وفي سبتمبر/أيلول 2017 “قصف” ترامب كيم كعادته، ووصفه في حسابه على تويتر بأنه “مجنون لا يخشى تجويع شعبه وقتله”، وهدده بأنه “سيواجه اختبارا لم يواجه مثله من قبل”. وثار بين الطرفين جدل بشأن الطالب الأميركي أوتو وارمبييه الذي سجن في كوريا الشمالية 18 شهرا، وأطلق سراحه فمات في الولايات المتحدة، واتهمت واشنطن بيونغ يانغ بتعذيبه، إلا أن الأخيرة نفت ذلك.
بدوره لم يفوت كيم الفرصة فوصف ترامب “بالمختل عقليا”، وتوعده بأن “يدفع ثمنا باهظا” لقاء التهديدات التي يوجهها باستمرار إلى بلاده، وقال بالحرف إنه سيعمل على “تأديب قطعة الحلوى الأميركية المختلة عقليا بالنار”.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017 عاد ترامب إلى وصف كيم بـ”الجرو المريض”، وأعادت الولايات المتحدة وضع كوريا الشمالية على رأس الدول الراعية للإرهاب، بعدما حذفتها قبل نحو تسع سنوات.
ومع بداية العام 2018، تغيرت اللهجة بين الرجلين وبدآ يتبادلان عبارات الود، وبلغ الحد بترامب أن قال إن بينه وبين كيم “علاقة حب”، وقبِل دعوة إلى لقاء قمة بينهما نقلتها إليه سلطات كوريا الجنوبية، وهو الذي عقد في سنغافورة يوم 12 يونيو/حزيران 2018، وتصافحا خلاله بحرارة، واعتبر كيم اللقاء “قمة تاريخية” في حين اعتبره ترامب “لقاء رائعا”.
وقبل ذلك في التاسع من الشهر نفسه، ذكر ترامب خلال مؤتمر صحفي في قمة السبع بمدينة كيبيك أن “الصفات الشخصية” التي تربط بينه وبين كيم “قد تكون عاملا حاسما في نجاح القمة في سنغافورة”، التي لم تفلح في نهاية المطاف في التوصل إلى اتفاق لنزع السلاح النووي الكوري الشمالي كما كان يظن كثيرون.
ذروة التحول في علاقة الرجلين كانت يوم 30 سبتمبر/أيلول 2018، فيومها قال ترامب إنه والزعيم الكوري الشمالي “وقعا في الحب”، واعترف أمام حشد من أنصاره في فيرجينيا الغربية قائلا “لقد كنت عنيفا للغاية، وهكذا كان هو، ونحن نتبادل التهديدات.. ثم وقعنا في الحب”، وتابع “كتب لي رسائل جميلة، وهي رائعة.. ووقعنا في الحب”.
وسبق أن حمّل ترامب وزير خارجيته مايك بومبيو “هدية طريفة” إلى كيم، وذكرت صحيفة “شوسون إلبو” الكورية الجنوبية أن الهدية قرص مدمج مسجّل عليه أغنية “رجل الصاروخ” للمغني البريطاني إلتون جون، وهي الأغنية التي سأله ترامب يوم التقيا في سنغافورة إن كان سمع بها، فأجاب كيم بالنفي، فوعده بأن يرسل له نسخة منها.
قمة ثانية جمعت بين الرجلين أواخر فبراير/شباط الماضي في العاصمة الفيتنامية هانوي، سبقها المديح والثناء المتبادل، لكنهما غادرا مقر الاجتماع دون التوصل إلى اتفاق ودون حتى تناول وجبة الغذاء التي كانت ضمن برنامج القمة.
بعد هذا الاجتماع قال ترامب إنه تم “بشكل ودي”، وإنهما تصافحا وإن هناك “دفئا” بين الطرفين تمنى أن يستمر من أجل “القيام بشيء مميز للغاية”، بينما قال كيم عن النهاية غير المتوقعة لهذه القمة الثانية إن “هناك أناسا رحبت وآخرين يتابعون قمتنا بتشكك، ولكن هناك من ينظر إلينا ونحن نقضي وقتا رائعا معا كمشهد في فيلم خيالي”.
وبعد نحو شهرين من ذلك التاريخ وفي أبريل/نيسان الماضي، جرت في موسكو قمة بين كيم والرئيس الروسي فلاديمير بوتين وصف خلالها الزعيم الكوري الشمالي الولايات المتحدة بأنها “كانت سيئة النية في قمة هانوي”، وأعلن عن استئناف التجارب النووية لبلاده.
آخر حلقات مسلسل الغزل والمديح بين ترامب وكيم كانت يوم السبت الماضي عندما عبر الحدود من كوريا الجنوبية إلى كوريا الشمالية على الأقدام، وهو ما وصفه بأنه “يوم عظيم بالنسبة للعالم”، كما وصف كيم بأنه “رجل ذكي” ويتوقع منه “الكثير من الأشياء الجيدة”. بدوره قال كيم إنه من “الرائع” الاجتماع مع ترامب، مضيفا أنه لم يكن يتوقع أن يلتقي معه في هذه المنطقة.
خطوات وإن كان أصحابها يرونها “مهمة وعظيمة”، فإن منتقديهم يرونها “مجرد استعراض”، فلا سلاحا نوويا نزعت ولا علاقات دبلوماسية وتجارية أقامت، حتى إن كاتبا في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية تساءل إن كان ترامب منح كوريا الشمالية أكثر مما كانت تحلم به.
لكن آخرين يرون أن ترامب -الذي طالما وصف بأنه رجل الصفقات- ربما يمهد للضرب بقوة في حديقة الصين الخلفية، ولا يستبعدون أن يكون ما يفعله مع كيم جزءا من حربه التجارية مع بكين، فـ90% من تجارة كوريا الشمالية حاليا تتم مع الصين، ولعل أفعال ترامب هناك ليست منزهة عن المناكفة، خصوصا أنه قال يوما لصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية إنه “سيحل مشكلة كوريا الشمالية بمساعدة الصين أو بدونها”.
المصدر : وكالات