معمر فيصل خولي*
أطاحت الثورة الإيرانية عام 1979 بنظام حكم الشاه الذي فر إلى الخارج، وعاد آية الله الخميني من منفاه في فرنسا ليتولى منصب المرشد الأعلى للثورة، وبعدها بفترة قصيرة، اقتحم عشرات الطلاب السفارة الأمريكية في طهران واحتجزوا عشرات الدبلوماسيين والموظفين لمدة 444 يوما، مطالبين بتسليم الشاه لمحاكمته، قطعت الولايات العلاقات الديبلوماسية مع إيران عام 1980 وحجزت الأصول الإيرانية في الولايات المتحدة وقطعت العلاقات التجارية معها وحظرت تصدير معظم السلع إليها.
ومنذ تلك الأزمة بين الدولتين، قطعت واشنطن علاقاتها الدبلوماسية مع إيران عام 1980، وفرضت الولايات المتحدة الأميركية خلال الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض سلسلة من العقوبات الاقتصادية على إيران منذ عام 1980، على خلفية اتهام طهران بدعم ما تصفه واشنطن “الإرهاب الدولي”، وبسبب برنامجها النووي، وشملت العقوبات مجالات عدة، منها الصادرات النفطية، والمبادلات التجارية، وتجميد الأصول، وحظر السفر، والمجال العسكري، والاستثمار.
والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: ما هو أصل الخلاف والعداء بين الدولتين منذ 40 عامًا؟!
يحجب دخان الأزمة المتصاعدة بين الولايات المتحدة وإيران صراعاً أكبر يجري في بنية النظام الدولي، بين القوة الكبرى الساعية إلى المحافظة على مكانتها فيه (الولايات المتحدة) ، وتلك الساعية إلى تغييره (روسيا والصين وإلى حد أقل الهند) ، وثالثة متضرّرة من سياسات الإدارة الأميركية الحالية (ألمانيا وغيرها).
الأزمة التي استجدت أخيراً ، والتي تبدو محاولة أميركية لاحتواء إيران، ليست في حقيقتها، سوى بوادر معركة شرسة خرجت إلى العلن، وتوشك أن تجعل من إيران ساحة تنافس كبرى بين القوى الطامحة في النظام الدولي.
كانت إيران في العام 1800م معزولة إلى حد ما عن الاقتصاد العالمي. لكن بحلول العام 1900م كانت في طريقها لأن تصبح مندمجة تماما في هذا الاقتصاد. وكان ذلك صحيحا بشكل خاص فيما يتعلق بالشمال، الذي زود السوق الروسية بالسلع الزراعية والعمال غير المهرة، وفي الجنوب، خاصة أصفهان، وفارس، وكرمان، التي كانت تقدم الشجاج والشالات، إلى جانب الأفيون، للأمبراطورية البريطانية. لذا لم يكن مستغربًا أن تكون لروسيا القيصرية اهتمامات خاصة ببندر “ميناء” أنزلي وبالطريق الذي يربط هذا الميناء بطهران. وكانت للكومة البريطانية اهتمامات مماثلة في الطريق التي تربط بين الخليج العربي وكل من أصفهان، وشيراز، زيزد، وكرمان.
وفي العام 1888م، بدأت شركة الإخوة لبنش، وهي شركة بريطانية نشطت في دجلة والفرات، في تسيير سيل متدفق من القوارب من المحمرة إلى الأحواز على امتداد نهر نهر الكارون- النهر الوحيد الصالح للملاحة في ايران. في العام 1889م أسست بريطانيا مصرف فارس الإمبراطوري من أجل مساعدة تجارها. وقد حاكاهم الروس بإقامة مصرفهم، مصرف “دي إسكومبت دو بيرس”. فإيران كانت كانت بلدًا حيويا لبريطانيا ليس فقط بسبب اللعبة الكبرى- هي مرحلة التنافس الاستراتيجي بين الإمبراطوريتين البريطانية والروسية من أجل السيطرة على آسيا الوسطى-، لكن أيضَا بسبب إمكاناتها التجارية.
وخلال الحرب العالمية الأولى كانت الجغرافية الإيرانية وثرواتها الطبيعية محل صراع بين دول الحلفاء ممثلة بريطانيا وروسيا القيصرية من جهة ، ودول المحور ممثلة بألمانيا. وخلال الحرب العالمية الثانية، احتل الاتحاد السوفييتي والمملكة المتحدة الأراضي الإيرانية، وشاركت القوات السوفيتية والبريطانية، وكان الغرض تأمين حقول النفط الإيرانية، ومنع القوات الألمانية من السيطرة عليها، كذلك ضمان خط إمداد وتموين آمن ومستمر للقوات السوفيتية المشاركة في المعارك على الجبهة الشرقية ضد قوات المحور.
وعلى الرغم من إعلان رضا بهلوي إيران بلدا محايدا في الحرب العالمية الثانية، إلا أنه أظهر تعاونا كبيرا مع قوات المحور، وبالأخص الألمانية، الأمر الذي دفع القوات البريطانية والسوفييتية لخلعه عن العرش، وتنصيب ابنه محمد خلفا له بعد احتلال كامل الأراضي الإيرانية.
بعد تعيين محمد مصدق رئيساً للوزراء في إيران (1951م-1953م)، قام بتأميم النفط الإيراني من السيطرة البريطانية، مما دفع بريطانيا، خوفاً على امتيازاتها النفطية، إلى تجميد جميع الأصول الإيرانية في البنوك البريطانية، ورفعت القضية إلى محكمة العدل الدولية، وحكمت المحكمة لصالح إيران، ولم ترتدع بريطانيا، فقامت بفرض حظر تجاري على إيران ونفذته بقوتها البحرية، مما أدى إلى انهيار الاقتصاد الإيراني.
كثيرًا ما صُور انقلاب عام 1953م على أنه مغامرة من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لمنع انضمام إيران إلى الشيوعية الدولية. وفي الحقيقة، كانت مغامرة بريطانية- أمريكية للحفاظ على احتكارات النفط العالمية. وقد ترك الانقلاب وراءه ميراثًا عميقٌا وممتد الأثر. فبتدميره لمصدق، ربط الانقلاب بين الشاه والبريطانيين، وشركة النفط الأنجلو-إيرانية، والقوى الإمبريالية، كما ربط الجيش ومع هذه القوى الإمبريالية نفسها- خصوصًا وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وإدارة المخابرات البريطانية. لطخ الانقلاب الأمريكيين بالفرشاة البريطانية- إذ بدأ الإيرانيون يرون أن العدو الإمبريالي الرئيسي ليس فقط بريطانيا بل بريطانيا في تعاونها الوثيق مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد دمر الانقلاب الجبهة الوطنية وحزب توده -حيث عاني الاثنان من اعتقالات واسعة لأعضائها، وتدمير منظماتها، حتى الذهاب إلى حد إعدام قادتهما. وقد مهّد هذا التدمير الطريق للظهور اللاحق للحركة الدينية. وبمعنى آخر، ساعد الانقلاب على أن تحل “الأصولية” الإسلامية محل القومية، والإشتراكية، والليبرالية. وفي وقت الحكم الجمهوري، والقومية، والحياد، والاشتراكية، أصبحت عائلة بهلوي الملكية ملازمة ومترافقة على نحو مميت مع الإمبريالية، ورأسمالية الشركات، والتحالف الوثيق مع الغرب. وعليه يمكن القول بأن الجذور الحقيقية لثورة 1979م تعود إلى العام 1953م.
على هذه الخلفية، تبنّى آية الله الخميني شعار “لا شرقية ولا غربية”، والذي صار بمثابة عقيدة رسمية للجمهورية التي أنشأها خلال العقود الأربعة الماضية، لكن هذه الحقبة توشك أن تنتهي نتيجة التغير الكبير الذي طرأ في بنية النظام الدولي، خصوصاً خلال العقد الماضي، والمتمثل بصعود الصين السريع وتقاربها المتزايد مع روسيا، وتحدّيهما معاً أسس النظام الليبرالي الدولي، ودور أميركا المهيمن فيه.
هذا التحول المهم منح إيران وضعاً استثنائياً، وجعل منها بيضة القبان في هذا الصراع الكبير، ما أجّج المنافسة عليها، ومثّل عاملاً حاسماً لجهة إشعال الأزمة الراهنة في الخليج، ما يعني أن هذه الأزمة غير مرتبطة على ما تظهره الوقائع بالديناميات الإقليمية، وعلاقات القوة السائدة في المنطقة، على الرغم من أهميتها، بل مرتبطة أكثر بما يجري على المستوى الأعلى في النظام الدولي، خصوصاً بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، وإلى حد أقل الهند وألمانيا واليابان.
تتفق النخبة السياسية الحاكمة في واشنطن من الحزبين، على أن استعادة إيران إلى المعسكر الأميركي تعد عاملاً حاسماً في تمكين الولايات المتحدة من استرداد زمام المبادرة في علاقاتها بمنافسيها الدوليين، ليس على مستوى منطقتي الخليج والشرق الأوسط فحسب، بل في إطار اللعبة الدولية الكبرى، إذ يؤثر موقع إيران وتموضعها في الصراع الدولي الدائر مباشرة في قدرة الولايات المتحدة على الاحتفاظ بتقدّمها على الآخرين، وبقائها في قمة هرم النظام الدولي، وكذلك في مساعي الآخرين إزاحتها عنها والصعود إليها.
وتدرك الولايات المتحدة أن إيران لعبت دوراً رئيساً في تمكين روسيا، بتكاليف غير كبيرة، من استعادة دورها على الساحة الدولية، من البوابة الشرق أوسطية، فقد استطاعت روسيا أن تمتطي المشروع الإيراني، ومن خلاله حققت زيادةً كبرى في نفوذها الإقليمي في سورية، ولبنان، والعراق، وحتى في اليمن، كما استثمرت روسيا في نفوذها على إيران لتوثيق علاقتها بإسرائيل التي باتت تعتمد على روسيا في احتواء إيران أكثر من اعتمادها على واشنطن.
السؤال الذي يطرح في هذا السياق، ما هي أهمية إيران بالنسبة لكل من روسيا والصين الرافضين سياسات ترمب إزاء إيران، وحلفاء واشنطن؟
روسيا التي تعتبر أكبر مصدر للأسلحة لإيران، لا تنظر للأخيرة كحليف استراتيجي، بالرغم من شراكتهما العسكرية في الدفاع عن النظام السوري، غير أن مستوى التبادل التجاري بين البلدين جد متواضع ولم يتجاوز 1.741 مليار دولار في 2018، منها 1.208 مليار دولار صادرات روسية، وأقل من 533 مليون دولار صادرات إيرانية.
فكلا البلدين يعتبران من كبار مصدري النفط والغاز الطبيعي، واقتصاديا يعتبران متنافسين على أسواق الطاقة أكثر منهما شريكين، لذلك من المستبعد أن تلعب موسكو دورا جوهريا في تخفيف الحصار الاقتصادي على إيران، رغم ارتفاع المبادلات بينهما 2% في 2018، وإعلان موسكو مواصلة تطوير تجارتها بالنفط الإيراني، الذي تبيعه إلى بلدان أخرى، وفق اتفاق النفط مقابل البضائع مع طهران.
كما أدانت روسيا العقوبات الأمريكية، وحثت الدول الأجنبية على عدم تقييد علاقاتها الاقتصادية مع طهران، مؤكدة مواصلتها بناء محطة الطاقة النووية في مدينة بوشهر الإيرانية، ومواصلة العمل على تحويل مشروع تخصيب اليورانيوم في “فوردو” (بمحافظة قم).
ورغم أن الخارجية الروسية، أعلنت في بيان، أنها “تتفهم” قرار إيران وقف بعض التزاماتها في الاتفاق النووي، إلا أنه بعد أيام من ذلك نصح الرئيس فلاديمير بوتين، إيران بالبقاء في الاتفاق النووي، بل ذهب أبعد من ذلك عندما قال “روسيا ليست فرقة إطفاء، ونحن غير قادرين على إنقاذ كل شيء، خاصة ما لا يعتمد على إرادتنا بالكامل”.
فبوتين، يحاول أن يلعب دور الناصح والوسيط، أكثر من دور الحليف القوي، بل اتهم الأوروبيين بالعجز عن إنقاذ الاتفاق النووي بعد انسحاب الولايات المتحدة منه، قائلا “خرج الأمريكيون.. والاتفاقية تنهار، فيما لا تستطيع الدول الأوروبية فعل أي شيء لإنقاذها، وعاجزون (الأوروبيون) عن القيام بعمل فعلي مع إيران للتعويض عن خسائرها في القطاع الاقتصادي”.
فالرئيس الروسي يعترف أنه لا يملك كل خيوط اللعبة لإنقاذ “الاتفاق النووي” من الانهيار، ناهيك عن فك الخناق الاقتصادي عن طهران، ويقول “الأمر لا يعتمد علينا فقط، بل يعتمد على جميع الشركاء، جميع اللاعبين، بما فيهم الولايات المتحدة والدول الأوروبية وإيران”.
وهذه التصريحات تعكس مدى افتقاد موسكو للكثير من الأوراق لحماية الاقتصاد الإيراني من الانهيار تحت ضغط العقوبات الأمريكية، ناهيك عن التدخل عسكريا لمنع أي غزو محتمل لأرض الفُرس، لكنها تبقى داعما دبلوماسيا مهما لطهران في مجلس الأمن، ومصدرا رئيسيا للأسلحة، وشريكا لا غنى عنه في إنتاج الطاقة النووية.
لكن هناك من يرى أن روسيا هي ثالث ثلاثة بين القوى العظمى في عالم اليوم: الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وهي ليست قوى متماثلة من النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية، ولكن أياً كانت التركيبة و«الخلطة» من هذه الأبعاد، فإنها مؤثرة، ولها دور ما على كوكب الأرض.
روسيا ليست قوة اقتصادية كبيرة، ولن تسمع أبداً عن ثلاجة أو سيارة أو كومبيوتر روسي له سمعة دولية حميدة، ورغم ما لها من صناعات فضائية مشهودة، فإنها تعتمد في التكنولوجيا المدنية المتقدمة على الغرب أو الصين كما فعلت مؤخراً بصدد تكنولوجيا G – 5، ولا توجد لديها شركة تكنولوجية متقدمة تماثل «آبل» أو «علي بابا»، كبرى شركات روسيا استخراجية في النفط والغاز، ولكن ما يجعل روسيا قوة عظمى، أولاً أن لها تاريخاً قريباً في المكانة بهذه الطريقة عندما كانت «الاتحاد السوفياتي»، هنا فهي عظمى بالوراثة، ومن ثمّ فإنها تحمل تقاليد دبلوماسية وسياسية تجعلها تعرف كيف تتصرف باعتبارها هكذا، وثانياً أن جزءاً مهماً من الوراثة هي القدرات العسكرية النووية التي تكفي لدمار الكرة الأرضية عدة مرات، ورغم أن هذه القدرات لم تحمِ الاتحاد السوفياتي من السقوط، فإنها في دورة العلاقات الدولية الراهنة لا بدَّ من احتسابها، خصوصاً أنها -ثالثاً- تقف خلف القدرة على استخدام القوة العسكرية التقليدية كما حدث في جورجيا وأوكرانيا وسوريا، حيث بات لها أثر في تغيير موازين القوى، وتمدد حلف الأطلنطي في آسيا الوسطى وشرق أوروبا وفي الشرق الأوسط، ورابعاً أن روسيا لديها «رجل قوي» وحاذق في استخدامات القوة والدبلوماسية هو فلاديمير بوتين، وعلى مدى العقدين الماضيين فإنه لم يُخرج روسيا فقط من «العشرية السوداء» لعقد التسعينات من القرن الماضي، وإنما استعاد الكثير من أرضية الدولة العظمى.
ما يحرّك الموقف الروسي هو المصالح الإستراتيجية لإدارة الكرملين في إطار الحفاظ على الثوابت الدولية التي لا تتعارض مع هذه المصالح، وهي تطمح إلى توظيف المعطيات التي تشهدها منطقة غرب آسيا تحديداً والساحة الدولية عموماً في تعزيز طموحاتها بالعودة إلى تكريس دورها كأحد أقطاب التأثير في القرارات الدولية وحلّ النزاعات. وتسعى موسكو إلى فعل ذلك أيضاً في النزاع الأميركي – الإيراني، بما يساعدها على العودة كقوة عالمية، مدركةً أن الفشل في احتواء الأزمة الإيرانية قد يتحول إلى عامل يؤثر سلباً في هذه الطموحات وهذه الإستراتيجية.
لذلك، ان استعادة إيران بالنسبة لواشنطن، تعني توجيه ضربة كبيرة لروسيا، ليس على صعيد نفوذها السياسي والدبلوماسي وحسب، إنما أيضاً على صعيد مكانة روسيا في سوق الطاقة الدولية، خصوصاً في أوروبا.
وتعد إمدادات الطاقة من أهم أدوات النفوذ الروسي، ومن مظاهر قوتها الرئيسة أيضاً، ولذلك تعد خطوط نقل الطاقة والسيطرة عليها من الموجّهات الكبرى في السياسة الخارجية الروسية، ولعبت دوراً رئيساً في دفع موسكو إلى التدخل في أوكرانيا وسورية، ومحاولة التمدّد إلى لبنان وقبرص واليونان ومصر وإسرائيل.
وتعد إيران البديل الوحيد الممكن لروسيا بالنسبة لسوق الطاقة الأوروبي، بسبب احتياطات إيران الكبيرة من الغاز والنفط، وقربها من أوروبا، إذ لا يفصل بينهما إلا تركيا، وهي البوابة نفسها التي تعتمدها روسيا أيضاً للوصول إلى السوق الأوروبية، عبر خط السيل التركي الذي دشنه بوتين مع أردوغان في ديسمبر/ كانون الأول 2018.
ويعد بقاء الوضع الحالي مثالياً بالنسبة لروسيا، أي بقاء إيران تحت الحصار عاجزة عن تصدير نفطها، وغير قادرة على تطوير مواردها من الغاز الطبيعي، وفي حالة عداء أيضاً مع واشنطن.
من هنا، ترى واشنطن أن استعادة إيران تمثل ضربة اقتصادية وجيوسياسية كبرى لروسيا، تعيدها إلى حيث كانت دولة إقليمية بطموحات عالمية.
تمثل الصين أكبر شريك اقتصادي لإيران بإجمالي 37 مليار دولار، لذلك فبكين أكثر المتضررين من فرض عقوبات على طهران، خاصة وأنها تستورد منها أكثر من نصف مليون برميل نفط يوميا.
كما أن إيران تمثل سوقا يتجاوز 80 مليون مستهلك، مما يجعل الصين، الباحثة عن أسواق جديدة لاستيعاب صادراتها الضخمة، غير مستعدة للتخلي عن مصالحها مع طهران بسهولة، وهو ما يفسر الموقف الصيني المعارض للعقوبات الأمريكية، وتأكيد بكين أن علاقاتها بطهران “استراتيجية”، لكن ليس واضحا إلى أي مدى يمكن للتنين الصيني تحدي النمر الأمريكي.
ففي 17 مايو/أيار الماضي، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي، إن بلاده تعارض فرض الولايات المتحدة عقوبات أحادية على إيران، وتقف ضد ما أسماه بـ”الصلاحيات الأمريكية العابرة للحدود”، وشدد على أن “الصين وإيران، شريكان استراتيجيان، وينبغي على البلدين تعزيز التنسيق بينهما، سيما مع تطور الأوضاع الدولية والإقليمية بوتيرة سريعة”.
وقبل توقيع الاتفاق النووي في 2015، كانت الصين اللاعب الرئيس في الاقتصاد الإيراني، لكنها واجهت، بعد هذا التاريخ، منافسة قوية من شركات أوروبية دخلت السوق الإيرانية المتعطشة للمنتجات الغربية ذات الجودة العالية مقارنة بنظيرتها الصينية.
وانسحاب العديد من الشركات الأوروبية مؤخرا من الاستثمار في إيران تحت ضغط أمريكي، يشكل فرصة للشركات الصينية للاستحواذ على مزيد من الحصص في هذا السوق الخصب، خاصة وأن إيران شريك رئيس في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، لكن الصين، المعروفة بطابعها المهادن، تواجه مخاطر اقتصادية عالية في حال تمسكها بـ”شريكها الاستراتيجي”، فتهديدات ترمب جدية، ومصالح بكين مع واشنطن أكبر، فإن كانت الأولى “مصنع العالم”، فالثانية سوقه، وحجم المبادلات التجارية بينهما تصل لنحو 600 مليار دولار، قرابة 500 مليار دولار منها صادرات صينية إلى الولايات المتحدة.
وضغوط واشنطن على بكين كبيرة، خاصة بعد فرضها رسوم جمركية على الصادرات الصينية إلى أسواقها لتقليص الفجوة في الميزان التجاري، لكن أخطر من ذلك تحرش الولايات المتحدة بالشركات الصينية ذات الانتشار العالمي، والتي يسهل فرض عقوبات عليها، على غرار شركة “هواوي” للاتصالات.
ويظهر أثر الضغوط الأمريكية على الشركات الصينية، إعلان شركة الصين الوطنية للبترول، ومجمع “سينوبك” الناشط في القطاعين النفطي والمصرفي ومجالات أخرى “تجميد الواردات النفطية من إيران وجميع العمليات هناك لفترة غير محددة”، وذلك في يناير/كانون الثاني 2018.
فالتنين الصيني، ورغم أنه يملك مصالح استراتيجية مع إيران، إلا أن حسابات الربح والخسارة تجعله يعيد تقييم أولوياته، والبحث عن خيارات أخرى للالتفاف على العقوبات الأمريكية، خاصة وأن بكين تتميز بمرونة في الدفع من خلال مقايضة السلع أو استعمال العملات المحلية في المبادلات التجارية.
لذلك ، لا تقل أهمية إيران بالنسبة للصين عن أهميتها بالنسبة لروسيا، منذ توقيع الاتفاق النووي مع مجموعة الدول الستّ، راحت العلاقات الاقتصاديّة بين الصين و إيران تتوثّق تدريجيّاً. لكنّ الروابط التجاريّة والاقتصاديّة بين البلدين ليست علامة فارقة في العلاقة الثنائيّة، بيجينغ فاختارت العودة إلى تعزيز الصلات العسكريّة مع طهران بما جعل واشنطن، تراقب ب “قلق” التعاون العسكريّ بين العاصمتين.
فالصين تواصل سعيها لإعادة إحياء طريق الحرير القديم بينها وبين بلاد فارس.فالطموح الصيني المنفتح على الشراكة مع إيران رغم ركود اقتصادها وسوء بنيتها التحية وفساد إدارتها. يبدو أن الصين تراهن على بقاء الوضع في طهران من حيث العلاقة مع الغرب في مرحلة السلام البارد لأطول وقت ممكن، بحيث يمكن للشريك الصيني تحقيق بعض آماله الاقتصادية، وهذا ما يفسر اندفاع الصين باتخاذ موقف داعم بقوة لخيار الحل الدبلوماسي لأزمة برنامج طهران النووي التي أصبحت ملفا مفتوحا، رغم الاتفاق الهش الذي وقعته إيران مع الغرب.
الموقف الصيني القريب من إيران ليس مجانيا وإنما بهدف تحقيق مصالح اقتصادية. وفي المقدمات الأولية للعلاقة الصينية الإيرانية في المجال الاقتصادي، كانت الصين الشريك الأول لإيران خلال سنوات العقوبات والحظر التي حرمت الشركات الغربية من إبرام عقود مع الجانب الإيراني، فكانت الساحة خالية للصين، بالإضافة إلى تبادلات تجارية وتسهيلات منحتها موانئ الإمارات وأسهمت في توفير أساسيات ضرورية للسوق الإيراني. كذلك استمرت الصين بشراء النفط الإيراني خلال سنوات الحظر وحصلت على ما قيمته 25 في المئة من معدّلات التجارة الإيرانية، ناهيك عن 50 في المئة من مبيعات النفط والغاز الإيراني. وتجاوز حجم التبادل التجاري بينهما مبلغ 50 مليار دولار في عام 2014.
في منتصف فبراير 2016 احتفل الصينيون بوصول قطار البضائع الأول من الصين إلى إيران، مغادرا من مدينة يويي في مقاطعة تشجيانغ شرق الصين مروراً بكازاخستان وتركمانستان وصولا إلى إيران، وقطع مسافة 10 آلاف و399 كيلومترا. ومثلت الرحلة أولى تباشير المبادرة الصينية لإحياء “طريق الحرير” القديم الذي كان التجار يتنقلون عبره بين أوروبا وشرق آسيا. ويلاحظ أن وتيرة الطموح الصيني في الاستثمار مع الإيرانيين ارتفعت مع بدء تطبيق الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى، وكانت الصين ضمن لائحة الدول الشريكة في الاتفاق. ومع صعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتعرض الاتفاق بانتظام لتهديدات متزايدة بنقضه، وخاصة مع توفر مبررات تتصل بتجاوزات إيرانية تنظر إليها الإدارة الأميركية بوصفها مخلة ببنود الاتفاق النووي.
سنة 2013، أعدّت مجموعة من الباحثين تقريراً أصدرته لجنة متابعة العلاقات الاقتصادية والأمنيّة بين الصين والولايات المتّحدة. وذكر تقرير اللجنة التي أنشأها الكونغرس في تشرين الأوّل من العام 2000، أنّ الصين وإيران دخلتا خلال 30 سنة في “شراكة فاعلة لكن محدودة” وقد تعاونتا في عدد من المواضيع السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة. فقد شكّلت إيران سوقاً مهمّاً لتصدّر الصين أسلحتها إليها بعدما دخلت الثانية في عصر تطوير صناعتها العسكريّة. واستفادت طهران من علاقتها العسكريّة مع بيجينغ خصوصاً خلال حربها مع العراق وبطريقة “مباشرة”.
انسحاب إدارة الرئيس ترمب من الاتفاق النووي، وإعادة العقوبات على إيران، لم يستهدفا مصالح خصومها فحسب، بل قطع الطريق على الحلفاء الطامحين في إيران أيضًا، فقد رفض الاتحاد الأوروبي قرار الانسحاب، واعتبره مضرّا بمصالح دولهِ، ورفض العقوبات، لذلك رأت بعض الأطراف الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا، أنّ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي كان خطأً كبيراً، وهو الرأي الذي لا ينم عن رغبة أوروبية حقيقية للتقارب مع إيران، بقدر ما يعكس توجهات براغماتية تكتيكية، في مقدمتها التخوف مع الدولة المقلقة إيران، والتي تمتلك الكثير من الملفات المتعلقة بعلاقتها مع الإرهاب، ما يهدد الداخل الأوروبي، هذا من جهة، ومن جهة ثانية ، ان الرغبة الفرنسية الألمانية في الدخول إلى السوق الإيرانية والاستثمار فيه، وهو العامل الذي ستعرقله العقوبات الاقتصادية، فقد بلغ إجمالي الواردات الإيرانية من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا، نحو 5.2 مليار دولار خلال العام 2018، ومن المؤكد أن أوروبا ستخسر هذه المليارات في حال انهيار الاتفاق النووي بالكامل.
أما ألمانيا الذي تعد أكبر اقتصاد في الاتحاد، فكانت أولى ضحايا السياسة الجديدة، إذ فقدت برلين، نتيجة العقوبات الأميركية، عقوداً بعشرات مليارات الدولارات، وخسرت نفوذاً سياسياً متصاعداً في إيران، عماده شركاتٍ مثل سيمنس وديملر، وفولكسفاغن، ودويتشه بنك وغيرها، وكانت تعد بإحياء العلاقات التاريخية الممتدة بين البلدين منذ أواخر القرن التاسع عشر.
أما حلفاء واشنطن في آسيا، فقد أجبرت العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، أحد كبار مستوردي النفط الإيراني على شراء المزيد من النفط من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة.
إيران كانت ثالث أكبر مورد للنفط الخام إلى الهند، والتي تستورد كميات هائلة من الطاقة لتغذية اقتصادها المتنامي، بينما كانت العراق والسعودية الدولتان الوحيدتان المصدرتان لأكبر كميات نفط إلى الهند، ولكن، وفي ظل العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب على صادرات النفط الإيرانية، اضطرت الهند للجوء إلى مصادر استيراد أخرى، ورغم أن الهند كانت من بين الدول الثماني التي منحتها الولايات المتحدة الأمريكية تنازلاً سمح لها بالاستمرار في شراء النفط من طهران، إلّا أن المهلة انتهت في الثاني من مايو/أيار الماضي.
فوق ذلك، يبدو أن نجاح إيران في اقتناص الفرص والاستثمار في أخطاء الآخرين، لتعزيز نفوذها الإقليمي في المنطقة، لفت انتباه القوى الكبرى أكثر إليها، وزاد من التنافس عليها، اعتقاداً بأن موقعها في أي من الاصطفافات التي تتبلور اليوم في النظام الدولي، سيؤدي إلى تغييرات كبرى في بنيته وموازين القوى فيه، فمن يكسب إيران يكسب نفوذها الإقليمي أيضاً، كما فعلت روسيا في سورية، وإذا فاز ترمب بها كما يشتهي، من خلال تفاهم معها، أو عبر تغيير نظامها، فهذا يعني أنه وجه ضربة كبرى لمشاريع الصين وروسيا في المنطقة والعالم، واستعاد الهيمنة الأميركية في المنطقة إلى ما كانت عليه قبل غزو العراق، هذا ما حاول أن يفعله الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، إنما بطريقة مختلفة، عندما توصل إلى الاتفاق النووي، وبدأ انفتاحاً على إيران، كان يأمل أن يفضي في نهاية المطاف، إلى تغيير طبيعة العلاقة معها، وتحويلها على المدى البعيد إلى حليف يمكن الاعتماد عليه، بعد أن اتضح له “بؤس” العرب والأتراك.
وهناك تيار عريض في دوائر الفكر والسياسة في واشنطن، ينظر إلى إيران باعتبارها الحصان الرابح في الصراع الدائر في الإقليم، ويرى أن استعادة أميركا علاقتها بها كما كانت عليه أيام الشاه، سوف يكون لها تأثير كبير في موازين الصراع مع الكبار الآخرين في النظام الدولي.
تدرك الصين وروسيا هذا الأمر جيداً، وتبذلان ما في وسعهما لإفشال مساعي واشنطن تغيير اتجاهات السياسة الإيرانية، سلمًا أو حربًا، هذا يعني أن المعركة على إيران في جوهرها معركة على السيادة العالمية، ولذلك ستشتد المنافسة عليها في قادم الأيام، بغض النظر عمن يمسك بقبضة السلطة في واشنطن، ومواقفه السياسية والحزبية، لكن هذا يعني أيضاً أن على الإيرانيين أن يشدّوا الأحزمة، ويستعدّوا للأسوأ، إذ توشك أن تتحول بلادهم من لاعبٍ إلى ساحة لعبْ، بعد أن استمرأوا اللعب في ساحات الآخرين.
دخلت إيران القرن الحادي والعشرين كقوة إقليمية رئيسة بكل تأكيد في الخليج العربي، إن لم يكن في كامل إقليم الشرق الأوسط، فبتعداد سكانها البالغ نحو 70 مليون نسمة تعد إيران أكبر بلد في الإقليم. وتؤدي دورًا رئيسيا في منظمة البلدان المصدرة للنفط، فهي ثالث أكبر منتج للنفط في العالم، يتوافر لديها أكبر ثالث بل ربما أكبر ثاني احتياطات مؤكدة من النفط والغاز في العالم. وسوف تبقى بلدًا مهما إذا استمر عصر النفط والغاز. لذلك من يكسب إيران يكسب نفوذها الإقليمي.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية