كان ماركس يحب أن يكرّر عبارة هيغل “الأحداث التاريخية والشخصيات الكبيرة تكرّر نفسها مرتين”، ولكنه كان يضيف من عنده أن المرّة الثانية غالباً ما تكون نسخة مهزلة عن المرة الأولى. ويدلّ على ذلك بشخصية كوسيدير مقارنة بدانتون ولويس بلان مقارنة مع روبسبيير، ولويس بونابرت مقارنة بعمّه نابليون بونابرت. يمكن أن تصدق هذه المقولة أكثر ما تصدق على جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
سيبدو صعباً تصديق أن شخصاً تنقصه الحكمة والذكاء وقوّة الشخصية مثل كوشنر، يمكنه أن يحلّ صراعاً تاريخياً فشل فيه كبار السياسيين والدبلوماسيين، مثل وزير الخارجية الأميركي المخضرم هنري كيسنجر، ومبعوث الرئيس باراك أوباما، جورج ميتشل. في أي مقارنة، سيبدو جاريد كوشنر مثل طفل يلعب بمسدّس والده… وفي هذا الشاب كثير من صفات عمّه (والد زوجته) ترامب، فتراه يميل مثله إلى تضخيم الأمور واستخدام صيغ المبالغة، وحين يجيب عن سؤال يطنب في تفاصيل زائدة، وتراه يجيب عن كلّ شيء آخر ما عدا السؤال الموجّه إليه فعلاً.
وقبل أيام، أنهى كوشنر مؤتمر البحرين الذي أقل ما يمكن وصفه به أنه فشل قبل أن يبدأ.
“ما يريده كوشنر: “لا تأكل خبزاً مقسوماً، ولا تقسم رغيفاً صحيحاً، وكلْ حتّى تشبع!”” ولطالما فشلت الإدارات الأميركية المتعاقبة من قبل في حلّ المسألة. ببساطةٍ، لأنها لم تقارب المسألة من زاويتها الصحيحة: حقوق الشعوب في تقرير مصيرها. واليوم يأتي كوشنر من زاوية جديدة: زاوية تاجر الشنطة.
جوهر فكرة كوشنر لحل عقدة العقد التي ما زالت تتشابك وتتعقّد على مدى العقود السبعة الفائتة هو: “تخلَّوا عن فكرة الدولة المستقلة وحلّ الدولتين أو الدولة الواحدة التي تضمّ عرباً ويهوداً وحقّ العودة، نعطِكم 50 مليار دولار”. مَثَله مَثَل ترامب، يعتقد كوشنر أن النقود قادرة على تحقيق أي غاية، ولكنه مثل ترامب أيضاً لا يدفع شيئاً، وإنما يعد بالدفع مستقبلاً، وغالباً من جيب غيره. ولم يخف الرجل غايته، ففي مؤتمر صحافي على الهاتف أجراه ترامب من المركز الإعلامي الأميركي في لندن، قال كوشنر إن أحداً لم يتعهّد بعد بتقديم أي أموال للفلسطينيين. وهو بيّن أن الفكرة ليست “إذاً دعنا نمضِ قدماً، ونبدأ في استثمار الأموال في هذا المجال. لقد جرّب الناس ذلك وقتاً طويلاً. وللأسف، أنت تعلم أنه قد يندلع صراع في غزة، ثم يتمّ تدمير الكثير من البنية التحتية وتدمير للاستثمار الذي تم إحرازه وتعطيل التقدم. هذه خطة كبيرة لا نريد البدء بها حتى يكون هناك فهم حقيقي للسلام، بطريقةٍ نعتقد أنها عادلة وطويلة الأجل قابلة للحياة. ومرة أخرى”.
وبوضوح أكبر، يضيف كوشنر: “كان الهدف من ورشة العمل وضع خطة اقتصادية لما يمكن أن يحدث في المنطقة في حال وجود حل سياسي. لا توجد خطة للقيام بهذه الاستثمارات قبل التوصّل إلى حل سياسي. لا توجد خطة للقيام بهذه الاستثمارات قبل تحقيق تقدم سياسي. ثم في ما يتعلق بالخطة الاقتصادية، كان من المفترض أن تكون خالية من السياسة. لذا حاولنا أن نجعل الأمر يبدو متعلّقاً بالنتيجة السياسية. وهذا ما حاولنا القيام به.” ما يريد كوشنر قوله هنا بكلّ بساطة: “لا تأكل خبزاً مقسوماً، ولا تقسم رغيفاً صحيحاً، وكلْ حتّى تشبع!”، بمعنى
“حلّ كوشنر لا ذكر فيه لدولة فلسطينية، سواء أكانت القدس عاصمتها أم لا، ولا ذكر فيه أيضاً لحقّ العودة للّاجئين الفلسطينيين” آخر: لن نعطيكم الأموال حتى توافقوا على الحلّ السياسي، ولن نصل إلى التسوية السياسية قبل الموافقة على الشقّ اقتصادي.
ولكن أي حلّ سياسي يريده كوشنر؟ هو حلّ لا ذكر فيه لدولة فلسطينية، سواء أكانت القدس عاصمتها أم لا، ولا ذكر فيه أيضاً لحقّ العودة للّاجئين الفلسطينيين. وفي تبريره رفض حقّ العودة، يأتي كوشنر بنظرية غريبة عن عدد متساوٍ من اللاجئين اليهود والفلسطينيين. فرداً على سؤال من صحافي لبناني عمّا إذا كان يحق للّاجئين الفلسطينيين في لبنان العودة إلى ديارهم، يأتي كوشنر بنظرية لم يأت بها أحد قبله. “بدأ هذا الأمر برمته عندما كان ثمّة 800 ألف لاجئ يهودي خرجوا من جميع البلدان المختلفة – مختلف بلدان الشرق الأوسط، و800 ألف لاجئ فلسطيني تقريباً. وما حدث للاجئين اليهود أنه تم استيعابهم في أماكن مختلفة، بينما لم يستوعب العالم العربي الكثير من هؤلاء اللاجئين بمرور الوقت”، والحلّ إذاً هو توطين الفلسطينيين في الدول العربية.
أعتقد أن تجنيس من يريد من الفلسطينيين أمر محقّ، ومن المعيب أن يظلّ الفلسطينيون في سورية ولبنان والكويت وغيرها بدون جنسية بعد سبعين سنة من المنفى، ولكن التجنيس شيء وحقّ العودة شيء آخر، وهو ما لا يريد كوشنر طبعاً أن ينظر إليه. ومنطلق كوشنر أن
“التجنيس شيء وحقّ العودة شيء آخر، وهو ما لا يريد كوشنر طبعاً أن ينظر إليه” المسؤول الأول عن مشكلة الفلسطينيين ليس الإسرائيليين، بل قيادة الفلسطينيين أنفسهم. ولئن كان في كلام كوشنر بعض الحق، فالقيادة الفلسطينية البائسة في رام الله وغزّة مسؤولة قطعاً عمّا آل إليه حال الفلسطينيين، إلا أن إغفال أن ذلك كله كان نتاجاً للسياسة الإسرائيلية اليمينية والعنصرية والمتعجرفة، هو إغفال لجوهر القضية.
كوشنر وترامب من أسرتين مترفتين، وقد كانا يُعطَيان كلّ ما يطلبان. وهما لا يتخيّلان أنهما يريدان أمراً فلا يحصلان عليه. والحال أن الرجلين ليسا على درايةٍ مطلقاً بالتاريخ، ولا يعرفان الشعب الفلسطيني أبداً. ببساطة، عزيزي جاريد، لا يمكن لحميك أن يهب القدس والجولان لإسرائيل، ثم تأتي أنت بسذاجتك وصلفك لتتوصّل إلى حلّ للصراع التاريخي في المنطقة. ما عليك فعله قبل خططك ومؤتمراتك هو أن تقرأ بعضاً من التاريخ، وتراجع مثلاً، مذكّرات هنري كيسنجر، وهذا أضعف الإيمان.
العربي الجديد