اضحى تسليم الأسلحة الأمريكية المخصصة للجيش العراقي، إلى الميليشيات الشيعية في البلاد، امرا علنيا يخلو من المواربة والتخفي. ووفقًا لمصادر امريكية رسمية، فان حكومة بغداد سلمت معدات عسكرية ومساعدات إلى ميليشيات الحشد الشعبي، المدعومة من إيران، والبالغة اثمانها بحدود 1.2 مليار دولار امريكي منذ الصيف الماضي واحتلال “الدولة الاسلامية” للموصل، إذ زودت الحكومة الأمريكية، والحكومات الحليفة الأخرى، قوات الأمن العراقية بمجموعة واسعة من المساعدات العسكرية والتدريب والأسلحة، وكان من المفترض أن يتم تحويل بعض هذه المساعدات إلى المجموعات القتالية الأخرى، مثل قوات البشمركة الكردية.
والإدارة الأمريكية اليوم في ورطة، لأدراكها مدى الضعف الذي تعاني منه القوات العراقية، وما يترتب على ذلك من عجز على محاربة “الدولة الإسلامية” بدون مساعدة هذه الميليشيات، التي تدربت على يد ضباط من الحرس الإيراني، وتخضع لأوامر قادته. ومن وجهة نظرها، فان عدم إرسال أسلحة إلى العراقيين، سيجعل الأمور اكثر تعقيدا، ومن المحتمل أن تقوم “الدولة الإسلامية” باجتياح مناطق جديدة من العراق، وبالتالي فان ما تريده الولايات المتحدة هو ايقاف الخسارة التي مني بها الجيش، ما يتيح ضبط الانهيارات ومنع تفاقمها، وهو ما يضيف مستوى من الحماية للحكومة العراقية، ويضمن بأنها لن تخسر أكثر ما خسرته، ولتكون قادرة على التعامل معه في حال تزايد ضغط التنظيم العسكري.
وفي هذه المرحلة، يُعتبر طرد التنظيم أهم من حصول الميليشيات الشيعية على اسلحة امريكية. على أن هذا لا يعني أن واشنطن غير مبالية بالمخاطر التي تنطوي عليها هذه المسألة، فالمخاوف الاميركية لجهة تزويد العراق بأسلحة متطورة يبررها ما ظهر اثناء المعارك التي اندلعت في تشرين الاول/ اكتوبر الماضي، حيث ظهر أعضاء من الميليشيات الشيعية وهم يقفون على دبابة أبرامز M1A1 وخلفهم رايات لـ”حزب الله”. كما ظهر الميليشياوي أبو عزرائيل الذي ينتمي إلى “كتائب الإمام علي” إحدى فصائل الحشد الشعبي متوعدا “داعش” وكان على كتفه بندقية رشاشة من طراز “M-4” الاميركية.
وكانت واشنطن تأمل في أن تكون حكومة العبادي أكثر استجابة لهواجسها، الامر الذي لم يتحقق بحسب ما اكده السيناتور جون ماكين، إذ سلمت الحكومة العراقية أسلحة و اعتدة أمريكية للميليشيات الشيعية. فمليشيا “عصائب الحقّ”، استبدلت بنادق الكلاشنكوف الروسية القديمة، ببنادق الـM16 وM4 أميركيّة الصنع. وهي أسلحة مخصّصة بالأصل للفرقتين السادسة والسابعة عشرة، المتمركزة في محيط العاصمة بغداد، وكان من ضمن ما حصلت عليه تلك المليشيات ذخائر ودروعاً واقية وأجهزة اتصال.
وللتمويه عن استخدامهم الاسلحة الامريكية، فان الميليشيات تستخدم طلاءً أسود، لإخفاء العلم الأميركي على بعض المعدات، المخصّصة لقوات الجيش العراقي لتعارضها مع شعارات ترفعها تدعو بـ”الموت لأميركا وإسرائيل”.
ولعل تسليم الاسلحة الامريكية للميليشيات الشيعية لم يكن بالأمر الخفي عن واشنطن، وهو ما اكده السفير جيم جيفري، الذي كان المبعوث الأمريكي إلى بغداد بين عامي 2010 و2012، قائلا: “بالتأكيد بعض من هذه الاشياء تذهب إلى أيدي الميليشيات. إنها مشكلة تعود إلى عام 2003… هناك وفرة كبيرة بالأسلحة التي قدمناها للعراق، ولست مندهشا من أن يتم منح بعضها للميليشيات الشيعية”.
وللذين يقللون من خطر تقليد ايران للأسلحة الغربية، فإن عليهم ان يرجعوا ما يمكن أن يعنيه نجاح طهران في تصنيع نسخ ايرانية من اسلحة امريكية متطورة في سياق سياساتها الإقليمية التوسعية في الشرق الأوسط، في وقت لا تستطيع فيه إيران الوصول لمخازن السلاح العالمية بشكل مفتوح.
وفي المعنى ذاته، لجأت إيران إلى محاولة إيجاد نوع آخر من التوازن العسكري مع دول الجوار وتحديدا الخليجية منها، عبر الاعتماد على هذا النوع من التصنيع لموازنة الخلل التسليحي الذي تعاني منه قياسا بما يمتلكوه من نظم تسليحية متطورة، وكان العراق البوابة التي اتاحت لطهران وضع يدها على الاسلحة الامريكية التي قدمت إلى بغداد منذ عام 2003.
وعلى هذا الاساس فان الولايات المتحدة تشعر بالقلق من تزويد العراق بطائرات F-16 التي سبق وتم التعاقد عليها، فعلى الاغلب ستكون بيد المستشارين الايرانيين وتحت انظارهم، ما يعني امكانية استنساخها، الامر الذي يؤرق ضباط البنتاغون، ويحول دون تسليمها إلى بغداد. نشير هنا إلى طائرة “اذرخش” وهي بالأساس سوفيتية الصنع من نوع MIG 29 قام العراق بإيداعها في ايران قبل اندلاع حرب الخليج الثانية لكي يجنبها القصف، لكن طهران رفضت اعادتها له لتصنع نسخة ايرانية منها.
بالإمكان القول إن خلاصة المشهد تقول إن ثمة صمتا امريكيا حيال اسلحته التي انتهت بيد الميليشيات المدعومة من إيران، وعلى قاعدة الاضطرار، املا في مقاتلة تنظيم “الدولة الاسلامية” وطرده من العراق. ولعل مثل هذا القول يقع في شراك التنبوء المتسرع، فالانقلاب على الامريكيين لن يطول امده في حال تمكن هذه الميليشيات من هزيمة “الدولة الاسلامية”. ما ينتج مسارا جديدا يترك وراءه الحقبة الامريكية، وكأنها حقبة منقضية.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية