«عاصفة الجنوب» وافتقاد التصوّر الاستراتيجي

«عاصفة الجنوب» وافتقاد التصوّر الاستراتيجي

4860160cc21c6e975b5a45498d37337e

لا ينقص جبهة جنوب سورية السلاح ولا العنصر البشري المقاتل ولا طرق الإمداد اللازمة. كما أن المواقع التي تقع تحت سيطرة النظام في المنطقة، بالمعنى العسكري، مواقع ساقطة، بحكم محاصرتها واستنزافها وقلة عديدها. لكن رغم ذلك تراجع، من دون سبب عسكري منطقي واضح، الانتصار الذي كان يتهيأ لإعلان نفسه من على المحاور السبعة التي هاجمت منها فصائل المعارضة المدينة.

يدرك من يتابع التطورات الميدانية في سورية أنّ الجنوب له وضعية خاصة، لا يشكّل العنصر العسكري العامل الأبرز والوحيد في تشكيل مسارها، بل تندمج اعتبارات سياسية، إقليمية ودولية، في تقرير حدود التحرك في هذه المنطقة والمدى الذي يمكن أن يصل إليه. وهو بخلاف بقية المناطق لا يملك هامشاً كبيراً للمناورة واللعب وإظهار قدرات الأطراف على الحركة، فثمّة قواعد صارمة للاشتباك، وإن لم تكن معلنة، لكنها فاعلة بقوة.

ولعلّ السبب الرئيسي في هذه الصرامة أنّ هذه البقعة الصغيرة ترتبط جغرافياً ارتباطاً مباشراً بثلاث دول تصل إلى قلب مراكزها الرئيسية والحيوية، هي الأردن ولبنان وإسرائيل. وبالتالي فإن سيطرة الفصائل المسلحة عليها وإلغاء وجود النظام الذي استقر على مدار أربعة عقود رسم خلالها قواعد الاشتباك وعلاقات التعاون مع هذه الدول من شأنه إحداث إرباك كبير وإيجاد واقع لم تتجهز له هذه الدول بعد، خصوصاً لعدم ثقتها بطبيعة الأطراف الجديدة البديلة عن النظام، إضافة إلى عدم قدرتها على تقدير توجهاتها على المدى البعيد.

أما السبب الأخر فهو اقتراب هذه المنطقة من العاصمة دمشق، ما يجعل السيطرة على الجنوب وقوفاً على أبواب دمشق بانتظار فرار النظام أو التفاوض معه على الاستسلام، أي حسم الجزء الأكبر والأثقل من الأزمة السورية، وذهابها بعد ذلك إلى مرحلة «حرب الكانتونات»، ما لم يكن هناك اتفاق واضح على مآلات الأزمة ومواقع النفوذ والحصص لكل طرف، وما لم يتم البت في شأن كثير من الأزمات الرديفة التي نشأت بين الأطراف على هامش الأزمة السورية المديدة، لدرجة حوّلتها إلى نمط من الأزمات المركزية التي تدور في محورها جملة من الأزمات.

يقود هذا إلى سبب عميق يفسر أسباب عدم السماح بالخطوات الواسعة التي من شأنها تغيير معادلات القوة في شكل جذري في الميدان السوري، وهو أنّ الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة لم تملك تصوراً استراتيجياً حتى اللحظة عن سورية المستقبلية، كما أن أطراف الصراع ليست لديها القدرة على ترجمة نفوذها العسكري الحالي إلى وسائط أخرى، أي واقع سياسي ونفوذ مستدام يسمحان بتحويل أوراق قوتها إلى سياسة دائمة. فلا روسيا ولا إيران ولا حتى الأطراف الداعمة للمعارضة وصلت إلى هذه الخلاصة. والسبب الرئيسي في هذه المشكلة يكمن في فوضوية الصراع، وهو ما صرف جهود جميع الأطراف في المرحلة السابقة إلى التركيز على التكتيك أكثر من الاستراتيجي، وما أسهم في هذا الواقع أن تلك الأطراف تتعامل مع الأزمة السورية من منطلق أزموي بحت يحصرها في إطار ردود الفعل، إضافة إلى عدم تبلور بدائل واضحة لا للنظام ولا للمعارضة نتيجة ضعف الطرفين وحال زخم توليد الميدان لقوى جديدة دائمة.

لم تكن الحسابات دقيقة في ما يتعلق بثوار جبهة جنوب سورية والآمال العريضة التي جرى بناؤها على «عاصفة الجنوب». وثبت بما لا يدع مجالاً للشك تهافت الاعتقادات السابقة التي غلّفت الموقف من الأزمة وركزت على أنّ عدم وجود بدائل منظمة وقادرة على إدارة الأزمة هو ما يعطل الحلول. فالواقع أن ثمة شروطاً أخرى أكثر أهمية يجب توافرها ولم تتوافر حتى اللحظة، أو أنها لم تنضج بعد.

ماذا يعني ذلك؟ الواضح أن هناك نمط إدارة دولية جديداً للأزمة السورية تتفق عليه الأطراف ضمناً ولا يقتصر على جبهة واحدة، بل يمتد من درعا إلى غوطة دمشق وحلب. وثمة معنى أخر، وهو وجود فرز واضح للقوى الفاعلة في الميدان حيث أصبح «الجيش الحر» طرفاً يلتزم بالمحددات الإقليمية والدولية ووجود محاولة لعزل «جبهة النصرة» والقوى السلفية المتطرفة. لكن هذه الإدارة تنطوي على مغامرة خطيرة واضحة المعالم، فهي تفسح المجال للقوى المتطرفة لتكون هي المبادرة وصاحبة التغيير، فماذا سيكون الموقف لو استطاع تحالف «جبهة النصرة» و «حركة المثنى» تحرير درعا؟ ثم إنّ هذه الإدارة لا تضع أي اعتبار لمعاناة المدنيين الذين تنكل بهم قوات الأسد مع سقوط مئات البراميل على درعا وريفها.

غازي دحمان

صحيفة الحياة اللندنية