ما وقع في السودان يوم السبت الماضي 6 تموز/يوليو 2019 من اتفاق بين قوى الحرية والتغيير من جهة، والمجلس العسكري الانتقالي من جهة أخرى، بداية لنقلة نوعية. بل إن الاتفاق على مجلس مشترك يتشكل من قادة الجيش وقوى الحرية والتغيير يمثل حالة أكثر تقدماً للتعامل مع قضايا الانتقال لصالح المشاركة الشعبية والحكم المسائل. لقد وصل النظام الديكتاتوري العسكري في السودان، في ظل حكم عمر البشير، إلى طريق مسدود. فمنذ انقلاب 1989 الذي قام به البشير على حكومة منتخبة، ساءت أوضاع الناس؛ فقد انتشرت في عهده أكثر من حرب أهلية، واتهم بجرائم حرب من قبل المحكمة الجنائية الدولية، بالإضافة إلى تدهور الاقتصاد السوداني. بفضل هذا النمط من الحكم، وصلت النخب الحاكمة في السودان إلى لحظة عجز وفوضى داخلية.
رفضت الانتفاضة والثورة السودانية استبدال نظام استبدادي كنظام البشير بمجلس عسكري يعيد إنتاج حكم الجيش. ما ميز السودان في حراكه الثوري الذي بدأ في ديسمبر/كانون الأول 2018 أن قطاعاً كبيراً من الشعب، خصوصاً الأغلبية الشابة بالإضافة إلى المؤسسات المهنية والسياسية، أجمعت على عدم الخضوع ثانية لنظام عسكري غير ديمقراطي. الانتقال الديمقراطي، كما تؤكد الدراسات، يتطلب أساساً قناعة واضحة لدى النخب الفاعلة ولدى قطاع كبير من المجتمع والدولة بأن مرحلة جديدة قد بدأت، وأن البلاد لن تتحمل نظاماً تسلطياً أو عسكرياً، يقوم من جانبه بفتح مزيد من السجون ونهب مزيد من الاقتصاد وتوريط البلاد بمزيد من المغامرات الاقتصادية والعسكرية.
نظرياً وموضوعياً، الفكرة الديمقراطية لا يمكن أن تبرز إلا بعد وصول المجتمع وقطاع رئيس من النخب الوطنية والفاعلة والمؤسسات إلى ضرورة وضع حد نهائي للنظام التسلطي. ففي الجوهر، يجب أن تصل النخب السياسية والاقتصادية والأمنية إلى القناعة بأن الديمقراطية والحقوق والحريات والتداول على السلطة هي الحل الأفضل لمستقبل البلاد. النخب يجب أن تؤمن بأن السياسة لا تنبع من فوهة البندقية والرصاص والجيش والانقلابات، بل يجب أن تنبع من الانتخابات وصناديق الاقتراع والحقوق الدستورية.
إن وصول معظم المجتمع لهذه القناعة يضمن أن لا يتحرك الجيش أو الأمن أو الطبقة القوية للوقوف ضد التحول الديمقراطي. هذا النوع من الوعي ما كان يمكن أن يقع بشكله الراهن والأولي في السودان لولا مرور السودانيين بمرحلة طويلة وقاسية مع نظام ديكتاتوري غير مساءل، كان جل تركيزه على صراع السلطة والمصالح الضيقة.
يجب أن تصل النخب السياسية والاقتصادية والأمنية إلى القناعة بأن الديمقراطية والحقوق والحريات والتداول على السلطة هي الحل الأفضل لمستقبل البلاد
ولكي يقع التحول، يجب أن تعي القوى الثورية وقوى التغيير أنها عندما تنتفض يجب أن تحدد سقفاً لعملية التغيير، وهذا يتطلب منها أن تقبل بمبدأ التفاوض مع جزء أساسي من القوى الحاكمة، لهذا فبعد التخلص من الفئة المسؤولة مباشرة عن الديكتاتورية والانتهاكات، يجب طمأنة الأغلبية وقادة الجيش والمؤسسات الأساسية على حقوقهم ومصالحهم، ويجب طمأنة الجيش على مكانته بعد انسحابه من الحياة السياسية المباشرة. لكن في الوقت نفسه، يجب طمأنة الشعب على مستقبله ومصالحه وحقوقه، وهنا أهمية البدء بتحول ديمقراطي مسؤول.
إن عملية التحول الديمقراطي لا يمكن أن تقع بين يوم وليلة، بل يجب أن يكون هناك مرحلة وسيطة، بموجبها يأخذ الجيش بعض الخطوات إلى الخلف، مقابل مشاركة الأحزاب والقوى الثورية الجديدة في العملية السياسية. إن التوازن في الفترة الأولى هدفه بناء الثقة بين كل القوى، وهذا ما يبدو أنه يقع الآن في السودان، في ظل الاتفاق الجديد بين الجيش وقوى الحرية، وهذا الوضع قد يقع قريباً في الجزائر التي تواجه ظروفاً مشابهة لتلك القائمة في السودان. ومع ذلك، لا يوجد شيء مضمون في أفق النجاح. فالحراك مستمر، بينما توجد قوى في الجيش لا تزال تطمح إلى بناء نظام تسلطي جديد.
إن تحقيق الانتقال الديمقراطي في السودان سيعني الاتفاق على انتخابات نزيهة وكتابة دستور جديد أو تعديل الدستور القائم، وستعني قوانين أكثر عدالة للإعلام والحريات والحقوق، وستعني عملية التحول الديمقراطي البدء بإصلاحات في المجال الاقتصادي. إن الإصلاحات يجب أن تصيب الجيش، وبعضها سيؤثر على أصحاب المصالح، لكنها يجب أن تمتد على مدى زمني يسبقه استعداد وتوافق.
في أوائل سبعينيات القرن العشرين، لم تكن الديمقراطية كنظام سياسي قد انتشرت في كثير من الدول. فعدد الديمقراطيات في عام 1973 لم يتجاوز 40 دولة في العالم كله. ومنذ سبعينيات القرن العشرين، انتشرت الديمقراطية في معظم القارات. لقد وقع هذا الانتشار بعد فشل التسلطية في معظم قارات العالم. لكن عالمنا العربي استمر حصناً للديكتاتورية، إلى أن جاء الربيع العربي في 2011 مبشراً برغبة الشعوب العربية في التغيير والمشاركة والإصلاح السياسي. إن الحدثين السوداني والجزائري، كما أحداث ربيع 2011، تؤكد بأن الدول والمجتمعات العربية بدأت تبحث عن بدائل للحالة الديكتاتورية. لهذا سيترك نجاح التجربتين السودانية والجزائرية أثراً مباشراً في مجتمعات عربية أخرى كمصر تبحث عن التغيير والإصلاح. في بلادنا العربية، ستنتشر في المدى المنظور والمتوسط حراكات شعبية وقوى حرية وتغيير، مطالبة بنموذج ديمقراطي يفتح الباب للإصلاح السياسي والتحول. فهل تتأقلم النخب العربية مع واقع جديد بدأ يطرح نفسه في جميع المجتمعات العربية؟
القدس العربي