كم من مرة طرح حل نهائي في تاريخ القضية الفلسطينية، ثم لم يلبث ذلك الحل أن فشل بسبب غياب أسس العدالة وجموح الصهيونية. في كل محاولة للحل، كان القمع والإقصاء والتهجير هو الأسلوب المتبع من قبل القوى الصهيونية، ولهذا بالتحديد فشلت كل الحلول.
ومنذ جولة هرتزل الأولى في أوائل القرن العشرين لشراء فلسطين من العثمانيين الذين رفضوا عبر موقف واضح من السلطان عبد الحميد الفكرة، وصولاً لحاييم وايزمان، زعيم الحركة الصهيونية الثاني، الذي سعى لبناء أمر واقع دون التفات لوجود سكان البلاد الأصليين لم ينجح حل نهائي بسبب المظالم التي تضمنتها الحركة الصهيونية تجاه سكان البلاد الأصليين. وعندما احتلت بريطاينا فلسطين عام 1917، بعد سقوط الدولة العثمانية، جاء معها مشروع بلفور كحل نهائي للمشكلة اليهودية. لكن ذلك التصور فشل لأنه تناقض بالكامل مع حقوق السكان الأصليين. ثم جاءت بريطانيا بلجان تحقيق لم تنجح أي منها في إيجاد حل نهائي. إحدى تلك اللجان وهي لجنة بيل طرحت حلاً نهائياً عام 1937 على شكل تقسيم لفلسطين لدولة يهودية وأخرى عربية. ومن سخريات التاريخ، أن المقترح أراد لتلك الدولة اليهودية أن تقام وسط كثافة سكانية عربية وفي أراض يملك معظمها سكان البلاد العرب. تلك الدولة المقترحة كانت على لسان بن غوريون، بداية لدولة يهودية لن تلتزم بحدودها. لهذا رفضها الشعب الفلسطيني بقوة.
وفي العام 1947 طرح حل نهائي أخطر، خاصة بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وهو تقسيم فلسطين من خلال قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة. كان القرار قد فشل في أول تصويت، لكن الضغط الأمريكي فرض نفسه على الدول. ذلك الحل النهائي أعطى اليهود 55 ٪ من الأرض، بينما لم يكونوا يمتلكون في فلسطين سوى 6٪ من الأرض. الحل النهائي كما تصورته الحركة الصهيونية في العام 1947 ـ 1948 لم يكن سوى إقصاء وتطهير عرقي شامل لسكان البلاد الأصليين. إن تقسيم 1947 لدولة عربية وأخرى يهودية كان مخادعاً، بل كان الأساس قيام دولة يهودية ومنع قيام دولة عربية، ذلك مهد لحرب 1948 وقيام دولة إسرائيل وما تخلل ذلك من عميات التطهير العرقي ومنع العودة ومصادرة المنازل والأملاك.
لكن حرب 1967 مثلت من جهتها حلاً نهائياً من نمط آخر، فمن خلال الحرب استطاعت إسرائيل أن تسيطر بالكامل على ما تبقى من فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية بالإضافة إلى سيناء والجولان وهزيمة شخصية عبد الناصر وروحه القومية العربية. لكن حرب 1967 لم تتحول للحل النهائي كما توقع دايان، وزير الدفاع الإسرائيلي، الذي أعلن بأنه كان ينتظر اتصالاً عربياً بطلب السلام. ذلك الحل النهائي الذي جاء مع الانتصار الإسرائيلي عام 1967 تحول لسلسلة حروب ومعارك بين العرب وإسرائيل، كما أن انتصار إسرائيل في حرب 1967 أطلق المقاومة الفلسطينية ووحد الشعب الفلسطيني ومهد لحرب 1973.
إن صفقة القرن المطروحة أمريكياً وإسرائيلياً والتي تبناها قطاع من النظام العربي اصطدمت بواقع يرفضها وبوضع عربي شعبي ناقد لها، وبحالة فلسطينية مقاومة
وإن أمكننا أن نعتبر بأن الحل المنفرد المصري الإسرائيلي في كامب ديفيد في العام 1979 مثل محاولة للحل النهائي، إلا أن ذلك الحل الذي أخرج مصر من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي مرحلياً لم ينجح في إنهاء الصراع. إن خروج مصر قابله دخول إيران بعد الثورة في المواجهة مع إسرائيل.
أحد أخطر الحلول النهائية للقضية الفلسطينية كان غزو إسرائيل للبنان عام 1982، لقد اعتقدت إسرائيل بأن طرد منظمة التحرير من لبنان سيفرض الأمر الواقع على الشعب الفلسطيني. لكن إسرائيل فوجئت بعد حرب 1982، التي أدت لمقتل وجرح ما لا يقل عن 30 ألف إنسان، بأن ذلك الحل النهائي تحول لكابوس بفضل المقاومة الفلسطينية و بفضل تأسيس حزب الله وقتاله للجيش الإسرائيلي في لبنان، ثم بفضل انطلاق الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1987، ثم بفضل تأسيس حركة حماس في فلسطين عام 1988.
أما تسوية أوسلو في العام 1994 واتفاقاتها فكانت أحد أهم الحلول النهائية. لقد تبلور اتفاق أوسلو في ظل وجود نصف مليون جندي أمريكي في منطقة الخليج وذلك في أعقاب تحرير الكويت من عزو صدام حسين في العام 1991. ذلك الحل النهائي هو الآخر فشل بسبب تعصب الصهيونية وبسبب قتل متطرف يهودي إسرائيلي لرئيس الوزراء إسحق رابين الأكثر مرونة في التاريخ الصهيوني. إن فشل أوسلو تجسد من خلال الحل النهائي الذي سعت إليه قيادة إسرائيل مع الرئيس كلينتون في لقاء كامب ديفيد مع ياسر عرفات في 2000. وبسبب ذلك اللقاء وفشله ثم بسبب زيارة شارون الاستفزازية مع المستوطنين للمسجد الأقصى اندلعت الانتفاضة الثانية في 2000.
بل حتى اغتيال ياسر عرفات عام 2004 بعد تصفية الانتفاضة الفلسطينية أتى ضمن تصورات لحل نهائي، لكن مهندس ذلك الحل رئيس الوزراء، شارون، دخل في غيبوبة واختفى معه الحل النهائي. وإن راجعنا مثلاً حروب غزة، في العام 2008 ثم 2012 ثم 2014، سنجد بأن كل حرب كانت أشرس من الحرب التي سبقتها، ويمكن القول إن هذا ينطبق على حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله. كل تلك الحروب لم تنجح في فرض الحل النهائي على الفلسطينيين.
لهذا، لم تكن صفقة القرن إلا جزءاً من سلسلة الحل النهائي. إن صفقة القرن المطروحة أمريكياً وإسرائيلياً والتي تبناها قطاع من النظام العربي اصطدمت بواقع يرفضها وبوضع عربي شعبي ناقد لها، وبحالة فلسطينية مقاومة. إن الحل الوحيد الممكن والنهائي هو الحل العادل الذي يوقف الصهيونية ويفكك منطقها وسلوكها، كما ويجمد ويلغي الاستيطان ويمنع التسلط والتميز العنصري والقمع والتهجير ويجيز حق العودة كما ويعترف للعرب بالحق في القدس والأرض والمكان.
القدس العربي