رغم مرور 67 عاما على ثورة يوليو، وهي فترة زمنية طويلة نسبيا، لم يحظ هذا الحدث البالغ الأهمية في تاريخ مصر والعالم العربي، بتقييم علمي رصين يحظى بإجماع النخب السياسية والفكرية، ويخرجه من حيز التجاذبات الكيدية والانتقامية. فمعظم الكتابات التي تناولته من زواياه المختلفة، تحكمت فيها أهواء شتى، وخضعت لرؤى أيديولوجية متباينة، غلب عليها منحى التبجيل والتفخيم تارة، ومنحى التحقير والتشويه تارة أخرى، الأمر الذي أوقع كلا الخطابين، التبجيلي والتحقيري، في أخطاء وصلت إلى حد الخطايا في أحيان كثيرة.
فقد تعامل الخطاب التبجيلي مع ثورة يوليو باعتبارها واحدة من أعظم الثورات في في تاريخ العرب والعالم، وليس فقط في تاريخ مصر الحديث، مرتكزا على عمق التغييرات التي نجمت عنه على مختلف الصعد المحلية والإقليمية والعالمية، وتعامل مع عبد الناصر، قائد هذه الثورة وزعيمها الأوحد، باعتباره الشخصية الأكثر أهمية في تاريخ مصر الحديث وأحد أهم الزعماء في تاريخ العالم المعاصر.
الفشل في العثور على آلية للانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، وضع بذور الفناء في جسد ثورة يوليو
أما الخطاب التحقيري فتعامل مع ما جرى في مصر ليلة الثالث والعشرين من يوليو كانقلاب عسكري لم تجن مصر من ورائه سوى محن متتالية وصلت ذروتها بهزيمة عسكرية كبرى لحقت بجيشها عام 67، وأدت إلى احتلال جزء مهم من أراضيها، كما تعامل مع عبد الناصر باعتباره ضابطا سعى للاستيلاء على السلطة بقوة السلاح ونجح في مسعاه، ومن ثم لا يختلف في كثير أو قليل عن غيره من العسكريين الذين تعاقبوا على حكم مصر منذ ذلك التاريخ، بدءا بمحمد نجيب في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، وانتهاء بعبد الفتاح السيسي، الحاكم بأمره حاليا، وإلى أن يشاء الله، مرورا بالسادات ومبارك وطنطاوي وكل من هم على شاكلتهم.
وفي تقديري أن كلا التقييمين افتقر للدقة، وبالغ في تضخيم المزايا مثلما بالغ في تضخيم العيوب، وارتكب من ثم أخطاء فادحة أدت إلى نوعين من خلط الأوراق:
الأول: خلط بين المشروع الوطني للثورة ونظامها السياسي. ونقصد بالمشروع الوطني للثورة ذلك المشروع الذي جسدته معارك عبد الناصر في الداخل، كالإصلاح الزراعي وبناء السد العالي والتصنيع والعدالة الاجتماعية بوجوهها المختلفة، وكذلك معاركه مع الخارج، كتأميم قناة السويس ورفض الأحلاف العسكرية وتبني سياسة عدم الانحياز، الخ. وقد ارتبط هذا المشروع عضويا بوجود عبد الناصر وانتهى برحيله. ونقصد بالنظام السياسي لثورة يوليو ذلك النظام الذي ترتب عليه إلغاء الأحزاب والتعددية السياسية والهيمنة على مؤسسات المجتمع المدني، وعلى وسائل الإعلام، الخ. وقد صمد النظام السياسي لثورة يوليو بعد رحيل عبد الناصر واستمر حتى نهاية عهد مبارك، ثم ثار عليه الشعب في يناير 2011، ونجح في إسقاط رأسه في 11 فبراير، لكنه يعود الآن ليطل برأسه من جديد، بل نجح أخيرا في تثبيت أقدامه بعد تمكن السيسي من الوصول إلى السلطة عبر مسرحية ديمقراطية بدت أقرب إلى الاستفتاء منها إلى الانتخابات الحقيقية.
الثاني: خلط بين الثورة التي قادها عبد الناصر والثورة المضادة التي قادها السادات، خاصة بعد حرب 73. ويبدو أن البعض يتعامل مع كل من يصل إلى السلطة مرتديا بزة عسكرية، أو حتى سبق له امتهان العمل العسكري في أي مرحلة من حياته، باعتباره انقلابيا وديكتاتوريا بالضرورة، وليس ثوريا أو حتى سياسيا، وينتمي بالتالي إلى «حكم العسكر». وهنا يسهل النظر إلى جمال عبد الناصر باعتباره مجرد حاكم عسكري مثله مثل محمد نجيب وأنور السادات وحسني مبارك وحسين طنطاوي وعبد الفتاح السيسي. وهذا لون من ألوان العبث الفكري الذي يحتاج إلى إعادة نظر شاملة.
لتقييم ثورة يوليو بشكل موضوعي، تبدو الحاجة لتبني رؤية قادرة على وضع الحدود الفاصلة بين الرأي من ناحية، والمعطيات أو الحقائق المجردة من ناحية أخرى، في ضوء مجموعة من الملاحظات أجتهد من جانبي في طرحها على النحو التالي:
الملاحظة الأولى: تتعلق بالمفاتيح اللازمة لفهم أعمق لشخصية جمال عبد الناصر. فعبد الناصر يبدو لي، بحكم النشأة والتوجهات الفكرية، أقرب إلى شخصية الثائر منه إلى شخصية رجل الدولة، وإلى السياسي منه إلى العسكري، وإلى المثقف الحالم منه إلى الحزبي البراغماتي. فقد شارك عبد الناصر الشاب في مظاهرات ضد الاحتلال الانكليزي، وعرف الاعتقال حين كان ما يزال طالبا في المرحلة الثانوية، واختار الالتحاق بكلية الحقوق قبل أن يتمكن من الالتحاق بالكلية الحربية، وانخرط لفترات قصيرة في أحزاب وجماعات سياسية متباينة التوجهات، منها جماعة الإخوان وحزب مصر الفتاة وحركة حدتو وغيرها، وقرأ بنهم مؤلفات وسير عدد كبير من الزعماء السياسيين والمفكرين الاستراتيجيين أثناء دراسته في الكلية الحربية، أو تدريسه في كلية أركان الحرب. وتوحي هذه الحقائق بأن عبد الناصر كان أقرب ما يكون إلى السياسي، الذي ضل الطريق إلى الكلية الحربية، وربما قد قرر في مرحلة مبكرة من حياته أن يتخذ من المؤسسة العسكرية أداة لوضع مشروع سياسي يتفاعل في ذهنه موضع التنفيذ. ولأنه لا توجد شخصية إنسانية «كاملة الأوصاف» علينا أن نبحث أيضا إلى جانب هذه المكونات «إيجابية الطابع» في شخصيته، التي ينبغي أن نضيف إليها الاستقامة الخلقية والنزاهة الشخصية وطهارة اليد، علينا أن نلقي الضوء على المكونات الأخرى «سلبية الطابع» أهمها في تقديري: حساسية مفرطة تجاه النواحي الأمنية، إحساس متضخم بالذات وبكل ما يمس كرامته الشخصية، التي اعتبرها جزءا من الكرامة الوطنية، ارتباط نفسي وعاطفي بشخص عبد الحكيم عامر يغلب عليه الطابع المرضي، إلخ.
الملاحظة الثانية: تتعلق بالمفاتيح اللازمة لفهم أعمق لطبيعة المشروع الوطني لثورة يوليو. فحين يتحرك تنظيم سري يضم مجموعة من الضباط لقلب نظام الحكم والاستيلاء على السلطة، نصبح بالضرورة أمام انقلاب عسكري مكتمل الأركان، لذا ينبغي أن لا تساورنا أي شكوك في أن ما جرى ليلة الثالث والعشرين كان، من حيث الشكل على الأقل، انقلابا عسكريا لا شبهة فيه. غير أن الفحص الأكثر تعمقا لمكونات هذا التنظيم يؤكد، أن معظم أعضائه ارتبطوا تنظيميا أو فكريا، في مرحلة أو أخرى من حياتهم، بهذا الفصيل أو ذاك من فصائل الحركة الوطنية المصرية، من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها، وأن الدوافع لتحركهم لم تكن شخصية، طمعا في سلطة أو ثروة، وإنما كانت عامة وتتسق في مجملها مع مطالب الحركة الوطنية، الأمر الذي يفسر مسارعة الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة على الساحة المصرية، بما فيها حزب الوفد، لتأييد «الانقلاب» بعد نجاحه في الاستيلاء على الحكم، ولم يتحول في الوعي الشعبي إلى «ثورة» إلا من خلال المعارك الداخلية والخارجية الكبرى التي خاضها، والتي أدت إلى تغييرات عميقة على بنية الأوضاع المحلية والإقليمية والعالمية القائمة.
الملاحظة الثالثة: تتعلق بالمفاتيح اللازمة لفهم أعمق لطبيعة النظام السياسي لثورة يوليو. فبعد إلغاء التعددية الحزبية، والاعتماد على تنظيم سياسي واحد تديره الأجهزة الأمنية وعلى التعبئة الجماهيرية في تحقيق ما تصبو إليه من إنجازات، كان من الطبيعي أن تتغلغل العناصر الانتهازية في قلب النظام، وأن تظهر «مراكز قوى» تتنافس أو تتصارع حول أمور شخصية أو موضوعية، لذا يمكن القول بدون تردد أن الفشل في العثور على آلية للانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، وضع بذور الفناء في جسد الثورة، أو بعبارة أخرى، أن النظام السياسي لثورة يوليو تولى بنفسه مهمة إلحاق الهزيمة بمشروعها الوطني، ويعد المسؤول الرئيسي عن سلسلة النكسات والهزائم التي منيت بها مسيرة الثورة في مراحل مختلفة من تطورها، بدءا بانهيار تجربة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1961 وانتهاء بهزيمة كبرى لحقت بالجيش المصري على يد إسرائيل التي تمكنت من احتلال شبه جزيرة سيناء عام 1967. وللأسف فإن عبد الناصر لم ينتبه إلى هذه الحقيقة، إلا بعد فوات الأوان، ووقوع العدوان الذي أجبر عبد الناصر على تكريس معظم جهده لإزالة آثاره أولا. وتشير الدلائل إلى أن عبد الناصر كان ينوي إدخال تغييرات عميقة على بنية النظام، لكنه رحل عن عالمنا قبل أن يتمكن من وضع رؤيته للتحول الديمقراطي موضع التنفيذ. أخلص مما تقدم إلى نتائج ثلاث، أجملها على النحو التالي:
النتيجة الأولى: تشير إلى ارتباط المشروع الوطني لثورة يوليو عضويا بشخص عبد الناصر الذي فشل في إقامة نظام سياسي يملك من القوة والفاعلية ما يكفي لتمكينه من مواصلة المسيرة من بعده، وهو ما يفسر حقيقة أن ثورة يوليو وصلت إلى نهايتها الفعلية برحيل عبد الناصر عن عالمنا.
النتيجة الثانية: تشير إلى أن النظام السياسي لثورة يوليو هو الصانع الحقيقي للثورة المضادة التي أجهزت على المشروع الوطني لثورة يوليو. فالنظام غير الديمقراطي لثورة يوليو هو الذي مهد الطريق لثورة مضادة قادها الرئيس السادات بنفسه، من داخل النظام وليس من خارجه.
النتيجة الثالثة: تشير إلى أن المشروع الوطني لثورة يوليو لم يكن نبتا شيطانيا، وإنما كان امتدادا للمشروع العام للحركة الوطنية المصرية، على اختلاف توجهاتها وفصائلها. لذا ينبغي على أي حوار يستهدف إنقاذ المستقبل في مصر أن يدور حول طبيعة النظام السياسي الأقدر على تحقيق أهداف المشروع الوطني لكل الثورات المصرية، وهي أهداف لا يجوز الاختلاف حولها أو عليها. وما لم تنجح النخبة السياسية المصرية بمعناها الواسع، والتي تشمل الشريحتين الحاكمة والمعارضة معا، في التأسيس لنظام ديمقراطي يضمن مشاركة الجميع ولا يستبعد أحدا، فسوف نظل ندور في الحلقة المفرغة نفسها التي لا يعرف إلا الله متى تتمكن مصر من الخروج منها.
القدس العربي