أصدرت ولاية إسطنبول بياناً عبرت فيه عن عزمها على مواصلة مكافحتها لـ«الهجرة غير الشرعية»، وذلك في أعقاب أيام من حملات الشرطة التركية، في شوارع إسطنبول وأحيائها، لاصطياد سوريين بدعوى أنهم لا يستوفون شروط نظام «الحماية المؤقتة» وترحيلهم إلى ما وراء الحدود. ثمة تقديرات تتحدث عن نحو 400 سوري ممن شملهم الترحيل إلى أرياف إدلب، بصورة رئيسية، وعفرين الخاضعة للفصائل المسلحة التابعة للجيش التركي هناك. أما ريف إدلب، الذي تتوزع في أنحائه نقاط مراقبة عسكرية تركية، فهو يتلقى القنابل من الطيران الروسي والأسدي، منذ أواخر شهر نيسان الماضي، وأغلب ضحاياه من المدنيين.
خلا بيان الولاية من أي ذكر للترحيل إلى ما وراء الحدود، بل حدد هدفه بترحيل أصحاب بطاقات التعريف الصادرة من ولايات أخرى، من إسطنبول إلى تلك الولايات. كما يتم ترحيل من لا يحملون بطاقة التعريف الخاصة بالحماية المؤقتة إلى ولايات تصدر تلك البطاقات تحددها لهم إدارة الهجرة، وفقاً لبيان الولاية. أي أن الترحيل إلى سوريا غير وارد في جميع الأحوال، وهذا ما يتماشى مع معاهدة جنيف الصادرة في العام 1951، ووقعت عليها تركيا. فقد نصت تلك المعاهدة على عدم جواز إعادة اللاجئين إلى بلدانهم، بأي شكل من الأشكال، ما دام هناك خطر على حياتهم.
فلا محل هنا للحديث حتى عن «عودة طوعية»، فليس الفرد اللاجئ مؤهلاً ليقرر زوال الخطر المحتمل على حياته في بلده الأصلي، بل هذا من صلاحيات الأمم المتحدة. فلا قيمة قانونية لوثيقة «العودة الطوعية» التي يرغم بعض السوريين على التوقيع عليها في لبنان أو تركيا أو أي بلد آخر من البلدان التي تستقبل اللاجئين السوريين، لتبرير ترحيلهم القسري بغطاء قانوني زائف. كل هذا ولم نتحدث عن مصطلح «الهجرة غير الشرعية» الذي من المفروض ألا ينطبق على السوريين الهاربين من بطش النظام أو المنظمات الجهادية أو الحرب. فهؤلاء لاجئون لم يختاروا «الهجرة» بشكل طوعي.
بين ابتزاز أوروبا والتنافس مع أحزاب المعارضة على استثمار الاستياء الاجتماعي من وجود السوريين، لا شيء يدعو للتفاؤل بنهاية قريبة لهذه المأساة الإنسانية
يحار المرء في فهم السياق السياسي لهذا التحول المفاجئ في تعامل السلطات التركية مع السوريين المقيمين على أراضي تركيا. صحيح أن اللاجئ السوري في تركيا لم يتمتع يوماً بوضع قانوني كلاجئ له حقوق محددة، وأنه عومل كـ»ضيف» عابر، وفقاً للخطاب الرسمي في بداية سنوات اللجوء، ثم خضع لقيود كثيرة، مع بعض الحقوق كالتأمين الصحي المجاني والاستفادة من الخدمات التعليمية، في إطار نظام «الحماية المؤقتة»، لكنه، بالمقارنة مع بلدان الجوار الأخرى، كان في وضع أفضل، وإن كانت السلطات قد بدأت، منذ العام 2015، بالتشدد في قبول مزيد من الهاربين من جحيم الحرب، وسجلت حوادث كثيرة أطلق فيها حرس الحدود النار على محاولي عبور الحدود بصورة غير نظامية، قتل بعض منهم، إضافة إلى التنكيل الجسدي الذي تعرض له كثيرون ممن وقعوا بين أيديهم، قبل إعادتهم من حيث جاؤوا. وفي السنتين الأخيرتين بات عبور الحدود رهناً بدفع مبالغ ضخمة للمهربين، مقابل عبور آمن لا يقتلون خلاله.
التحول المفاجئ وقع، بصورة رئيسية، في مدينة إسطنبول التي يقطنها أكثر من نصف مليون سوري، فشن البوليس حملة على السوريين في الشوارع، تم اقتيادهم إلى الحدود ليلقي بهم وراءه حيث الحرب دائرة بكل شراستها في إدلب وجوارها. وأول ما يتبادر إلى الذهن هو رد هذا التحول إلى الهزيمة القاسية التي تعرض لها حزب العدالة والتنمية في انتخابات الإعادة لمنصب رئاسة بلدية إسطنبول. فقد جاءت الإشارة الأولى لتغيير السياسة تجاه اللاجئين السوريين من الرئيس اردوغان الذي كان يتحدث إلى المجموعة البرلمانية للحزب. فقد أبدى عدد من نواب الحزب ملاحظة مفادها أن الحزب فقد الكثير من أصوات الناخبين بسبب موقفه الإيجابي من اللاجئين السوريين. فكان رد الرئيس على تلك الملاحظات هو الوعد بـ«تشجيع السوريين على العودة إلى بلادهم» و«ترحيل المخالفين منهم للقوانين والنظام العام» و«وضع رسم مالي مقابل استفادة السوريين من نظام التأمين الصحي». وقد بدأت حملة الشرطة بعد هذا الكلام بأيام قليلة جداً. يمكن القول، إذاً، إن الدافع السياسي وراء هذا التغيير، جزئياً على الأقل، هو التنافس مع أحزاب المعارضة على إرضاء الناخب المستاء من وجود السوريين في تركيا لمختلف الأسباب.
لكن وزير الداخلية، سليمان صويلو، أطلق تصريحات متتالية، في اليومين الأخيرين، يمكن أن نفهم منها سبباً آخر وراء الحملة البوليسية. فقد قال في اجتماع مع خفر السواحل في إزمير إن الحكومات الأوروبية لن تصمد ستة أشهر في الحكم، إذا سمحت تركيا بعبور اللاجئين باتجاه أوروبا! وأضاف مخاطباً تلك الحكومات: «إن كنتم لا تصدقوننا تعالوا لنجرب!»
الغريب أن هذا التصريح الواضح في مضمونه الابتزازي قد تزامن مع وصول دفعة من أموال الدعم الأوروبية المخصصة للاجئين السوريين في تركيا، بلغت 1,1 مليار يورو! فهل يعني ذلك أن الحكومة التركية غير راضية عن حجم المبلغ، وتضغط من أجل الحصول على المزيد؟ أم أن كلام الوزير صويلو يأتي في إطار الاحتجاج على العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على تركيا بسبب استمرار تنقيبها عن الغاز قرب سواحل قبرص، وهو ما تعارضه أوروبا والولايات المتحدة وروسيا جميعاً وتعتبره عملاً غير شرعي؟
في اليوم التالي، أطلق صويلو تصريحات جديدة بشأن الحملة ضد «الهجرة غير الشرعية» عبر فيها عن عزم الحكومة على مواصلة مكافحة تلك الهجرة، متوعداً بطرد 80 ألف من «المهاجرين غير الشرعيين» خارج الحدود التركية، حتى نهاية العام الحالي.
بين ابتزاز أوروبا والتنافس مع أحزاب المعارضة على استثمار الاستياء الاجتماعي من وجود السوريين، لا شيء يدعو للتفاؤل بنهاية قريبة لهذه المأساة الإنسانية.
القدس العربي