يكشف تحقيق تاريخي جديد عن دور الرئيس السوداني الراحل، جعفر النميري، في تهريب يهود الفلاشا للهجرة إلى فلسطين من خلال بلاده مقابل رشوات مالية كبيرة.
ويروي تحقيق صحافي نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” تفاصيل كثيرة عن عملية ترحيل اليهود من إثيوبيا كحلقة جديدة في مسلسل المهاجرين اليهود إلى فلسطين عام 1985، بفضل علاقات الصداقة المتينة بين جعفر النميري وبين الولايات المتحدة وإسرائيل.
ويشير التحقيق الذي أجراه محرر الشؤون الاستخباراتية في الصحيفة، رونين بيرغمان، إلى أن النميري وافق قبل سنة من الإطاحة به على طلب الموساد بالسماح بمرور آلاف اليهود الفلاشا والإقامة داخل معسكر لاجئين أقامته إسرائيل على الحدود بين السودان وبين إثيوبيا، قبل نقلهم إلى الخرطوم ومنها إلى تل أبيب عبر مطارات أوروبية.
وتستذكر “يديعوت أحرونوت” أن الانتقادات الواسعة التي تعرض لها النميري بعد الكشف عن نقل يهود الفلاشا وقتها، المعروفة بـ”عملية موسى”، دفعته إلى وقفها لكن الموساد واصل نشاطه داخل الخرطوم تحت غطاء شركة استيراد وتصدير.
تهريب عناصر الموساد
وتكشف الصحيفة أن ثلاثة من عناصر الموساد الذين بقوا في الخرطوم هربوا في اللحظة الأخيرة إلى بيت رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية في المدينة، ميلتون بيردين، بعدما كشف أمرهم خلال تحقيق مع أحد مساعدي النميري المؤتمن على المال، الذي اعتقل مع حقائب مالية في طريقه للمطار.
وتقول إن عناصر من المخابرات الليبية هم من كانوا قد حققوا مع مساعد النميري، وتمكنوا من الحصول على معلومات كثيرة عن العملية السرية، مما دفع الموساد إلى إصدار تعليماته لعناصره في الخرطوم بالهرب فورا من الفندق إلى بيت رئيس المخابرات الأمريكية في السودان.
وحسب التحقيق، قام بيردن بنقل الإسرائيليين الثلاثة ومبعوث آخر أرسله الموساد لتخليصهم من بيت إلى آخر، بعد تسليحهم بمسدسات ومنحهم قبعات أمريكية للتغطية.
وتتابع الصحيفة: “أدرك بيردن أنه لا بد من تهريب عناصر الموساد الإسرائيليين الأربعة، لأن ضبطهم من قبل المخابرات الليبية بات مسألة وقت، ولذا تقرر نقلهم داخل صناديق خشبية مهيئة للتنفس من خلال أجهزة أوكسجين صغيرة تعمل بمولدات صغيرة داخل طائرة شحن أمريكية”.
مطار الخرطوم
وتشير إلى أن كل ذلك تم بالتنسيق مع وكالة الاستخبارات الأمريكية في واشنطن، ومع رئيس الموساد إفرايم هليفي، وإلى أن بيردن اتصل مباشرة بقائد طائرة الهيركولاس الأمريكية في مطار الخرطوم، وطلب منه الإقلاع فورا رغم عدم تلقيه إذنا من برج المراقبة، وذلك بعدما بلغه أن جهات سودانية وليبية تبحث عنهم في كل مكان.
وتوضح “يديعوت أحرونوت” أن هذه العملية كانت حلقة في مسلسل عمليات قامت بها إسرائيل لنقل يهود الفلاشا من إثيوبيا إليها في 1990-1980. وتضيف: “وخلال أربع سنوات في تلك الفترة، أقام الموساد قاعدة سرية له داخل قرية سياحية مهملة تم ترميمها ( قرية إيروس السياحية) على ساحل البحر الأحمر من أجل دعم عملياته في نقل يهود الفلاشا. وفي الأسبوع المقبل، سيتم عرض فيلم إسرائيلي جديد عن تلك “القرية السياحية” التي لم تكن سوى قاعدة للموساد في السودان.
وتشير إلى أن الموساد جعل من “إيروس” واحة سياحية مغرية بشروطها ونقطة جذب هامة جدا للسائحين الأوروبيين ممن بحثوا عن السكينة والغطس والحفلات الليلية.
فتوى يهودية
وتشير إلى أن عملية نقل الفلاشا تعود بداية لفتوى للحاخام الراحل عوفاديا يوسيف، الذي أقر للمرة الأولى عام 1973 بأنهم يهود بخلاف المؤسسة الدينية حتى الآن، لكن العملية بدأت تدخل حيز التخطيط بعدما تسلم مناحم بيغن رئاسة الحكومة في دولة الاحتلال.
وتمت محاولة فاشلة لنقل اليهود الفلاشا من إثيوبيا مباشرة، لكن كشف موشيه ديان عن السر أفشل العملية، مثلما فشلت محاولات أخرى من خلال دول أخرى، وعندئذ تقرر نقلهم سرا لمعسكرات سرية في السودان بعد سيرهم 500 كيلومتر من إثيوبيا. وحسب التحقيق الإسرائيلي، تم نقل اليهود الفلاشا من إثيوبيا إلى قاعدة “إيروس” بشاحنات تجارية ومنها بقوارب مطاطية نحو بوارج عسكرية إسرائيلية انتظرتهم داخل البحر الأحمر.
جورج بوش
وتكشف “يديعوت أحرونوت” أن نحو ثمانية حواجز عسكرية كانت منتشرة في الطريق من حدود إثيوبيا حتى “إيروس”. وفي كل مرة كانت تمر شاحنة محملة باليهود كانت تسبقها مركبة تتوقف عند الحاجز وتقدم الويسكي والسجائر والطعام للضابط المسؤول، ومن ثم إبلاغه بأن شاحنات في الطريق تسير خلفه مع بضائع طالبا السماح لها المرور من دون تفتيش لأنه على عجل من أمره.
وتنقل الصحيفة عن بعض الخبراء والمشاركين في عملية الموساد هذه أن الحظ لعب دورا في نجاحها، وأكدوا أنها كانت محفوفة بمخاطر غير محسوبة. ويرجح الموساد أن 4 آلاف من بين 20 ألف يهودي قد ماتوا خلال نقلهم من إثيوبيا إلى البلاد نتيجة أمراض والجوع. وبعدما اكتشف الموساد أن كمية الفلاشا المتدفقين من إثيوبيا للسودان أكبر مما تم تقديره، تمت الاستعانة بنائب الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي رتب مع النميري إرسال طائرات مروحية لنقلهم جميعا.
عمر البشير
يشار إلى أنه بالتزامن تم نقل ستة آلاف من آخرين من إثيوبيا مباشرة برحلات جوية سرية من أديس بابا إلى تل أبيب ضمن عملية موسى، في الفترة بين نوفمبر/تشرين الثاني 1984 حتى الكشف عنه في يناير/كنون الثاني 1985. كما تم نقل مئات من اليهود بدءا من 1987 حتى 1990، بمروحيات هبطت في صحراء السودان وتم وقف عمليات النقل بعدما اكتشفت المخابرات السودانية أمرها.
وبواسطة رجل أعمال إنكليزي تولى تطوير زراعة القطن في السودان، تم تخليص بعض السودانيين والإثيوبيين المتعاونين من حكم الإعدام، وبعد تقديم رشاوى كبيرة لرئيس السودان السابق عمر البشير.
وعن ذلك قالت “يديعوت أحرونوت”: “بعدما بلغ الموساد نبأ القرار بالحكم بالإعدام على سودانيين عملا لصالحه وقدما مساعدات في نقل الفلاشا، تمت الاستعانة برجل أعمال بريطاني يدعى تيني رولاند، الذي طار للخرطوم مسرعا والتقى بالرئيس عمر البشير طالبا الإفراج عنهما، لكنه رفض مؤكدا أنهما عميلان للموساد ويجب إعدامهما. لكن رولاند لم يستسلم وواصل ضغوطه بين الترغيب والترهيب بالمساس باقتصاد السودان، فوافق البشير على تسليمه واحدا منهما، فرفض رجل الأعمال البريطاني وواصل إلحاحه حتى وافق على الإفراج عنهما، فنقلا بمروحية بحالة يرثى لها إلى نيروبي، حيث مكثا ثلاثة أسابيع ريثما استعادا عافيتهما”.
ويشار إلى أنه في 1991، تم نقل مئات من الفلاشا في دفعة أخيرة مباشرة من أديس ابابا إلى تل أبيب ويكابد هؤلاء اليوم تعاملا عنصريا في إسرائيل على المستويين الشعبي والرسمي، مما دفعهم للخروج باحتجاجات عنيفة واسعة قبل أسبوعين بعد قتل شرطة الاحتلال لأحد شبابهم”.
القدس العربي