سبق أن حوّلت الثروات الهيدروكربونية للأحواض الجيولوجية في النيل والمشرق الاقتصاد المصري ووسّعت نطاق خيارات إسرائيل المرتبطة بالطاقة، إلا أن لعبة السلطة الخطيرة التي يمارسها الجانب التركي تقوّض احتمال تمتُّع قبرص بحظٍ سعيدٍ مشابه. فبعد عجز أنقرة كما يبدو عن العثور على النفط أو الغاز الطبيعي في مياهها في البحر الأبيض المتوسط، طالبت بحقوقٍ لها في مناطق يعتبرها المجتمع الدولي جزءاً من المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص. وقد تنجرّ إسرائيل ومصر إلى الدخول في الخلاف الدبلوماسي المتنامي، كما من المحتمل حدوث اشتباك عسكري مع تركيا.
وفقاً لـ”اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار”، تمتد المياه الإقليمية لبلدٍ ما 12 ميلاً )19.3 كيلومتراً) بحريّاً في البحر، إلا أن منطقته الاقتصادية الخالصة يمكن أن تمتد 200 ميلٍ (321.8 كيلومتر) إضافي، حيث باستطاعته المطالبة بحقوق الصيد والتنقيب والحفر. وعندما تكون المسافة البحرية بين بلدين أقل من 424 ميلاً (682.3 كيلومتراً)، عليهما تحديد خط فاصل متّفق عليه بين منطقتيهما الاقتصاديتين الخالصتين.
غير أن تركيا لم توقّع على “الاتفاقية” لأن هذه الوثيقة تمنح حقوقاً ملحوظة إلى الأقاليم الجزرية. وبدلاً من ذلك، تطالب أنقرة بحقوق استناداً إلى جرفها القاري، وهي وجهة نظر تحدّ بشدة من الحقوق القبرصية. وتتضح جيداً هذه الادعاءات المعادية، التي يعقّدها الانقسام المستمر في الجزيرة إلى كيانين قبرصي يوناني وقبرصي تركي، في خريطة وزارة الخارجية الأمريكية بعنوان “البنية التحتية المختارة للطاقة في شرق البحر المتوسط”. وباستثناء أنقرة، تعترف بقية [دول] العالَم بقبرص كدولة واحدة، مع تمتُّع الحكومة في نيقوسيا بالسيادة، إن لم تكن بالسيطرة، على جميع أراضيها.
وهذا الاعتراف يغضب تركيا، التي زادت بشكلٍ منتظم من إثبات نفسها داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة للجزيرة. وحتى الآن قامت هذا العام بالأعمال التالية:
– أرسلت سفينة حفر للعمل على بُعد خمسةٍ وخمسين ميلاً (88.5 كيلومتراً) غرب قبرص، أي داخل أعماق المنطقة الاقتصادية الخالصة المزعومة لنيقوسيا. وقد اشترت أنقرة السفينة في عام 2017، وأعادت طلاءها لتبدو كالعلم الوطني التركي، كما أعادت تسميتها “الفاتح” على اسم الفاتح العثماني لاسطنبول [السلطان محمد الفاتح] في القرن الخامس عشر.
– وكّلت سفينة مسح زلزالي بالتنقيب في منطقةٍ تقع مباشرةً جنوب قبرص، حيث سبق لحكومة نيقوسيا أن أعطت ترخيص لشركة النفط الإيطالية العملاقة “إيني”. وأُعيد طلاء السفينة بشكلٍ ساطع لتبدو كسفينة “فاتح” وسُمّيَت باسم الأميرال العثماني خير الدين بربروس باشا.
– أمرت سفينة الحفر ذات التصميم الخارجي المشابه أيضاً والمدعوة “يافوز” (تعني “غير المرنة” أو “الحازمة”) بالعمل في منطقةٍ قبالة شبه جزيرة كارباس، وهي جزء من الجزيرة سمّته أنقرة بشكلٍ أحادي “جمهورية شمال قبرص التركية” بعد غزوها للجزيرة في عام 1974 لمواجهة محاولة انقلاب مؤيدة لليونان في نيقوسيا.
وإلى جانب هذه التحركات، يقوم الجيش التركي منذ سنوات بمضايقة جهود استكشاف النفط والغاز القبرصي. وكان أسوأ حادث في آذار/مارس 2018، عندما أَرغمت السفن الحربية التركية سفينة تعاقدت معها شركة “إيني” على التخلي عن محاولات الحفر في منطقة “المربع 3” [“بلوك 3”]، الذي يقع شرق الجزيرة وعلى مقربة من الحدود البحرية مع لبنان. وربما كانت أنقرة ترد على اكتشاف حقل “كاليبسو” للغاز، الذي تم الإعلان عنه في الشهر الذي سبق من قِبَل اتحاد يضم شركة “إيني” والشركة الفرنسية “توتال” في منطقة جنوب غرب قبرص. وتَعتبر تركيا أن هذه المنطقة البحرية تابعة لمصر، على الرغم من أن اتفاقية الحدود البحرية التي أبرمتها القاهرة مع نيقوسيا تضع الحقل في “المربع 6” من “المنطقة الاقتصادية الخالصة” لقبرص.
ولم يرتفع سقف الرهان سوى في عام 2019:
– في شباط/فبراير، أعلنت شركة “إكسون موبيل” عن اكتشاف حقل “غلاوكوس” (“غلافكوس”) في “المنطقة 10” من نيقوسيا جنوب كاليبسو، مما أنشأ رابطاً أمريكيّاً مباشراً مع هذه المسألة.
– تم اختيار مصر كمضيفة لـ “منتدى غاز شرق المتوسط” الجديد، وهو مجموعة تضم أيضاً قبرص واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية. ولم يتم شمل تركيا ولبنان.
– أفادت التقارير أن الولايات المتحدة قد سهّلت المفاوضات بشأن الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان. وإذا نجحت هذه المحادثات، باستطاعتها فتح المجال في المياه مقابل الساحل اللبناني أمام تنقيب النفط والغاز وتخفيف حدة التوترات بين بيروت وإسرائيل.
– في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر، وافقت القاهرة على خط أنابيب تحت سطح البحر يمتد بين حقل الغاز الأول لقبرص “أفروديت” (الذي اكتُشف في عام 2011 ولكن لم يتم استغلاله بعد)، والمحطة المصرية لإسالة الغاز وتصديره في إدكو، قرب الإسكندرية. وتقود شركة “نوبل إنرجي” الواقعة في هيوستن الاتحاد الذي يملك رخصة الحقل، وهي تشغّل أيضاً حقليْ الغاز الإسرائيلييْن “تامار” و”ليفيثان”. وعندما تم اكتشاف حقل “أفروديت” لأول مرة، حلّقت الطائرات النفّاثة الحربية التركية على مقربة من مروحيات الإمداد المنطلقة من إسرائيل. وتم لاحقاً تحديد جزءٍ من الحقل على أنه يمتد في المنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل، لذلك إذا كررت تركيا مثل هذه التكتيكات في الوقت الذي يبدأ فيه العمل على بدء الإنتاج في الحقل، فمن المرجح أن ترد إسرائيل بقوة.
– في 15 تموز/يوليو، وافق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات على تركيا بسبب أنشطة التنقيب “غير القانونية” التي تقوم بها قبالة ساحل قبرص، وهي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي. ورغم أن العقوبات لم تكن حادّة، إلا أن أنقرة ردّت بغضب وتعهدت بمواصلة الحفر. وفي 22 تموز/يوليو، بدا أن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو تراجع قليلاً، إذ أشار إلى أن حكومته لن ترسل سفينة مسح زلزالي إضافية إلى المنطقة كما كان مخطط في الأصل. وبعد ذلك بيومين، أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان أن “التهديد بالعقوبات” ضد تركيا لن توقف أنشطتها المتعلقة باستثمار حقول الغاز [بالقرب من السواحل القبرصية]. وأضاف، “أن الخطوات الأخيرة التي اتخذناها أظهرت بوضوح حساسيتنا فيما يتعلق بحماية حقوق وقوانين ومصالح القبارصة الأتراك”. وفي الوقت نفسه، اقترحت قيادة “جمهورية شمال قبرص التركية” [إقامة] لجنة مشتركة مع القبارصة اليونانيين لمناقشة تقاسم عائدات النفط والغاز، لكن نيقوسيا رفضت الفكرة.
وفي الواقع تعاني علاقات واشنطن مع أنقرة من الاضطرابات بعد تسليم الصواريخ الروسية “أس-400” وقرار وقف مشاركة تركيا في مشروع تطوير مقاتلات “أف-35”. وقد تبدو التوترات في شرق البحر المتوسط صغيرة بالمقارنة، ولكن لا يمكن السماح بتفاقمها نظراً إلى احتمال التصعيد الخطير.
معهد واشنطن