استذكرت أوساط إسرائيلية حرب الاستنزاف عشية الذكرى الخمسين لنشوبها، وتساءلت عن سبب طمسها في الذاكرة العامة، فيما يفسر مؤرخ فلسطيني لـ”القدس العربي” أسباب “نسيانها” في مصر.
وتستذكر القناة الإسرائيلية الرسمية تلك الحرب التي تسببت بقتل 1000 جندي إسرائيلي في سيناء والأغوار والجولان، وجاءت بعد حالة الانتشاء عقب حرب 1967. وفي البرنامج التلفزيوني يتحدث أربعة من قادة جيش الاحتلال سابقا، وهم إيهود باراك، شاؤول موفاز، موشيه يعلون ودان حالوتس.
كما تستذكر تلك “الحرب المنسية” التي ما زالت إسرائيل تبكيها بعد 50 سنة، وهي التي قتل فيها عدد كبير من جنودها ووقع آخرون منهم في أسر مصر وسوريا. كما توقف البرنامج التلفزيوني عند قيام إسرائيل بالاستيلاء على رادار روسي في سيناء وإحضاره لتل أبيب بدلا من تدميره.
ونشبت حرب الاستنزاف في آذار/ مارس 1969، وانتهت في 7 أغسطس/آب 1970، وكانت أطول حروب إسرائيل، وقد نشبت بعدما هاجمت قوات مدفعية إسرائيلية قوات مصرية في سيناء، وبعدما قرر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تغيير طريقة القتال، والانتقال لحرب استنزاف تقوم على هجمات وكمائن مرة تلو المرة.
بالمقابل كانت إسرائيل تعتمد استراتيجية التمسك بما حازت عليه في حرب 1967 ودفع مصر لتطبيق اتفاق وقف النار الذي وُقّع في نهايتها.
وزعمت القناة الإسرائيلية أن حكومة الاحتلال برئاسة ليفي أشكول قد أكدت في نهاية حرب 1967، استعدادها للانسحاب من سيناء والجولان مقابل اتفاق سلام وحرية الملاحة في البحر الأحمر، لكن عبد الناصر ظل ملتزما بـ”لاءات الخرطوم الثلاث” وموقفه بإعادة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم والانسحاب الكامل من الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967.
ومع ذلك تدعي القناة الإسرائيلية أن حرب الاستنزاف قد فرضت على إسرائيل مثلما كانت سابقتها حرب 1967، منوهة إلى أنه بخلاف بقية الحروب كانت حرب الاستنزاف ثابتة، جوهرها استخدام قوة النار عن بعد دون مناورات وتحركات برية. وقالت إن الجيش الإسرائيلي اضطر لمواجهة 150 بطارية مدفعية مصرية أمطرت 30 موقعا إسرائيليا في الضفة الشرقية من سيناء بنيران ثقيلة فشل سلاح الجو الإسرائيلي في إسكاتها.
واستذكرت القناة أنه في نطاق مساعيها لـ”إقناع” مصر بوقف النار، قامت بعمليات برية منها عملية “أفيف” في سبتمبر/أيلول 1969، وفيها هاجمت قوة مدرعات مصرية في الضفة الغربية من قناة السويس، وفي عملية أخرى تم احتلال جزيرة شدوان في يناير/ كانون ثاني 1970، وعلى إثرها تمت الإطاحة بعدد من الضباط المصريين، وفي عملية ثالثة استولت قوة كوماندوز إسرائيلية على رادار روسي في سيناء، مدعية أن هذه العمليات الثلاث والشعور بالعجز أمام هجمات سلاح الجو الإسرائيلي في منطقة قناة السويس، دفعت عبد الناصر للسفر عاجلا وبسرية إلى موسكو في مطلع 1970، طالبا مساعدات عسكرية وتدخل الطواقم الروسية في القتال، مهددا بنقل الحكم لخصمه زكريا محيي الدين صاحب التوجهات الغربية. وقالت القناة الإسرائيلية إن موسكو استجابت ووجدت إسرائيل ذاتها في مواجهة مباشرة مع دولة عظمى وهي الاتحاد السوفياتي.
دول عظمى
وتستذكر أنه عندما لم تتوقف النيران المصرية الثقيلة في منطقة القناة، بادرت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية لصياغة خطة جذرية، بتوجيه ضربات قاتلة للبنى التحتية الحيوية في العمق المصري.
من جهته تحفظ وزير الأمن موشيه ديان على الخطة خوفا من ردود فعل روسية، وبدلا من هجمات استراتيجية تمت مهاجمة أهداف أكثر تواضعا طيلة أربعة شهور، ما مهد الطريق أمام وقف النار في مثل هذا الشهر عام 1970.
وتابعت: “ربما لو تم تنفيذ الخطة المذكورة لكانت إسرائيل قد أنهت الحرب بانتصار حاسم ومنعت نشوب حرب 1973 بعد ثلاث سنوات”. معتبرة أن حرب الاستنزاف قد توقفت ليس نتيجة الضربات الإسرائيلية فحسب بل نتيجة تدخل دول عظمى أيضا.
وتخلل البرنامج جدل إسرائيلي بين من اعتبر حرب الاستنزاف فشلا إسرائيليا و”عمى إسرائيليا”، وبين من يقول إن مصر لم تكن مستعدة لأي تفاهم مع إسرائيل. وأضاف أنه لو نفذت إسرائيل ضربات استراتيجية واستبدل جيشها البقاء الثابت على ضفة القناة، بأنظمة دفاع متحركة في سيناء ربما كان مسار التاريخ قد تغير.
ويرى دوف تماري نائب رئيس الاستخبارات العسكرية، أن مفاهيم إسرائيل الأمنية والدفاعية بعد حرب 1967 لم تلائم أبدا انتشارها الدائم في سيناء الممتدة على مساحة أكبر من مساحتها بضعفين.
ويقول تماري في مقال نشره بهذه المناسبة، إن النتيجة كانت أنه قبل حرب 1967، تمتعت إسرائيل بعمق استراتيجي ملائم لطاقاتها العسكرية والاقتصادية، وبعد الحرب صار لديها عمق افتراضي فقط.
لماذا غابت عن الوعي؟
ويوضح المؤرخ الفلسطيني، البروفيسور مصطفى كبها لـ”القدس العربي” أن حرب الاستنزاف من أكثر حروب الصراع ضراوة، مرجحا أن نسيان هذه الحرب وتغييبها مرده إلى عوامل عدة، أهمها الأثر الرجعي لحرب أكتوبر/تشرين أول 1973، ورغبة أنور السادات، وتيار الردة على الناصرية الذي قاده في مصر، بتقزيم كل حدث يذكّر بإنجازات حققها سلفه جمال عبد الناصر، كي لا يحد ذلك الحدث من نجاعة عملية “صناعة البطل” التي عكف عليها السادات بعد حرب 1973 لتنتج شخصية “بطل العبور” التي كانت بدورها النسخة الممهدة لشخصية “بطل السلام”، التي أنتجتها زيارته للقدس في التاسع عشر من تشرين الثاني 1977.
وتابع: “وبما أن (الحرب التحريكية) التي قادها أنور السادات عام 1973 قد ساهمت إلى حد كبير في طمس معالم حرب الاستنزاف وإنجازاتها الاستراتيجية (من وجهة نظر الطرف العربي في الحرب) بل لا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن حرب أكتوبر، رغم إنجاز العبور الذي تحقق فيها، أخلّت، في المحصلة النهائية لها والتي تجسدت باتفاقيات فصل القوات في ربيع عام 1974، بالتعادل الاستراتيجي الذي كان المصريون قد حققوه في الليلة الأخيرة من حرب الاستنزاف (ليلة الخامس من آب 1970) عندما نجحوا، في الساعات الأخيرة للحرب، بتحريك حائط صواريخ (سام 6) المضادة للطائرات إلى الحافة الغربية لقناة السويس مبطلين بذلك، إلى حد كبير، من التفوق شبه التام لسلاح الجو الاسرائيلي الذي استعمل في حرب الاستنزاف مدفعية محلقة لضرب الأهداف في العمق المصري”.
ويقول كبها إن التجليات العسكرية للنزاع العربي الإسرائيلي منذ اتفاقية وقف إطلاق النار لحرب الاستنزاف، بعد قبول الطرفين بالمبادرة الأمريكية المعروفة بمبادرة روجرز (وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك)، توضح أن حالة من “توازن الردع الاستراتيجي” كالتي كانت في نهاية تلك الحرب لم تتوفر إلا في نتائج حرب لبنان الثانية بين حزب الله وإسرائيل عام 2006.
مشيرا إلى أن المصريين اعتمدوا في حرب الاستنزاف على الحاضنة الشعبية التي وفرتها مدن القناة (السويس، بور سعيد، الإسماعيلية والقنطرة) وقراها على الضفة الغربية من قناة السويس، في حين شكلت القاعدة الشعبية في العمق المصري امتداداً استراتيجياً لها. ويضيف: “هكذا كان في منطقة الأغوار، حيث اعتمد مقاتلو المنظمات الفلسطينية المسلحة، على الحاضنة الشعبية شرقي نهر الأردن في محاولاتهم لاستنزاف الجبهة الداخلية الإسرائيلية في غور بيسان”.
أما في الحالة الفلسطينية في الأردن، فقد كانت العلاقات بين الفئات الثلاث مشحونة، وصلت في ما يخص العلاقة بين المنظمات الفلسطينية والدولة، إلى حد العداء السافر والتصادم، الذي كانت قمته معارك أيلول الأسود عام 1970.
القدس العربي