لا شيء يوحي أنّ إيران وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا والصين مستعدّة للتسليم بالواقع: الاتفاق النووي في حال موت سريري بعد الخروج الأميركي منه بقرار الرئيس دونالد ترمب، وليس أصعب من إحياء الاتفاق سوى دفنه. الإحياء أو ما يسمّيه الأوروبيون والروس والصينيون “إنقاذ الاتفاق” الذي ترجمته في طهران “الحفاظ على الاتفاق” يحتاج إلى ما لا تستطيعه أوروبا، وما لا تريده إيران. فلا أوروبا تستطيع تحدّي أميركا وعقوباتها لضمان ما يطلبه الرئيس حسن روحاني علناً وهو “مصالح” الجمهورية الإسلامية. ولا إيران تريد التفاوض على ما تطلبه أميركا وتؤيّده أوروبا ويضعه المرشد الأعلى علي خامنئي في باب “ما ليس قابلاً للتفاوض”.
وهو ما يختصره وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بثلاثة ملفات تعكس جوهر الـ 12 شرطاً التي وضعها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو.
الأول بحسب لودريان، هو مصير البرنامج النووي بعد عام 2025 أو ما يسمّى “بند الغروب”، الثاني هو برنامج الصواريخ الباليستية، والثالث هو سياسة إيران الإقليمية التي تعكس “إرادة النظام ضرب استقرار المنطقة”، أما الدفن، فإنّه “لن يكون في مصلحة إيران ولا فرنسا. لا المنطقة والعالم” كما قال روحاني.
الخطر الإيراني الأكبر… السلاح النووي أو المشروع الإمبراطوري؟
والاتفاق أساساً ليس اتفاقاً بمعنى المعاهدة الدولية التي تبرمها البرلمانات بل صفقة فضّل أطرافها تسميتها “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وهي، بصرف النظر عن تعدّد أطرافها، صفقة بين تاجر إيراني شاطر باع بضاعة ليست في حوزته، واشتراها تاجر أميركي شاطر أيضاً يعرف حقيقة ما اشتراه، وكل منهما أراد توظيف الصفقة في مجالات مختلفة، لكن ما راهن عليه الرئيس باراك أوباما فشل من قبل أن يأتي ترمب.
وما راهنت عليه طهران اصطدم بتبدّل اللاعبين وتغيير اللعبة في واشنطن. فالصراع الجيوسياسي المحتدم حالياً يتجاوز الاتفاق النووي إلى مصير الشرق الأوسط كله، وهو كان سيصل إلى هذه المرحلة بنوع من “الحتمية التاريخية” بوجود أو بغياب الاتفاق النووي.
وهدف ترمب “احتواء النفوذ الإيراني” و”تغيير السلوك” الذي ترجمته في طهران “تغيير النظام” وضرب المشروع الإقليمي، وأبسط ما يقوله خامنئي هو “أنّ المقارنة بين سياسة الشرق الأوسط للغرب وسياسة الشرق الأوسط لطهران تكشف بوضوح أنّ السياسة الإقليمية للجمهورية الإسلامية تقترب من تحقيق أهدافها”، وليست مسألة الأمن للناقلات في مضيق هرمز سوى عنصر في الصراع.
ذلك أنّ أوروبا متخوّفة من الاصطفاف وراء القيادة الأميركية في إجراءات الأمن لناقلات النفط، وعاجزة عن تأمين “الصيغة الأوروبية” الناجحة لمواكبة الناقلات، وطهران قادرة على الاستمرار في ابتزاز أوروبا المتمسكة بالاتفاق على الرغم من الخطوات الإيرانية المتدرّجة للتخلّي عن الالتزامات التي يفرضها الاتفاق، وكل شيء في ظلّ “الضغط الأقصى” الأميركي و”الضغط الأدنى” الإيراني.
أميركا تشنّ حرباً اقتصادية شاملة على إيران، وهذه ترد بأشكال من حرب العصابات” في البحر والبر والجو، شيء يحمل توقيعها الواضح مثل احتجاز الناقلة البريطانية وإسقاط الطائرة المسيرة الأميركية. وشيء مجهول معلوم على أيدي الحرس الثوري أو على أيدي وكلائه.
لكن استمرار ذلك ليس من طبائع الأمور، فهذا “ستاتيكو” خطر وخطير، ولا بد من تغيير فيه: إما أن تتغيّر السياسة الأميركية، وإما أن تتغيّر السياسة الإيرانية، إما تصعيد الصراع العسكري والأمني تحت سقف الرفض المعلن للذهاب إلى حرب شاملة مدمّرة، وإما فتح مخرج للتفاوض، وليس أمراً قليل الدلالات أن يقول ترمب إنّ “إيران لم تربح أي حرب ولم تخسر أية مفاوضات”.
ومن الوهم أن تستمر طهران في الرهان على قتال أميركا بسياسة “مصارعة الثيران” حيث المخاتلة والبراعة مكان المواجهة المباشرة، فلا أحد يجهل ما يصيبه إذا غضب الثور الأميركي، ومن الممكن أن يغضب حتى في عام الانتخابات الرئاسية.
مفهوم أن يقول قائد الحرس الثوري الجنرال حسين سلامي “إذا أخطأ العدو في الحسابات، فإنّ استراتيجيتنا الدفاعية وجميع قدراتنا تتغيّر إلى استراتيجية هجومية”.
لكن المفهوم أيضاً أنّ أميركا قادرة على تغيير استراتيجيتها رداً على أي خطأ إيراني في الحسابات، والمفهوم أيضاً وأيضاً أنّ أوروبا التي تمارس سياسة الاسترضاء حيال إيران ستواجه أسئلة صعبة ودقيقة في الحرص على إنقاذ “الاتفاق النووي”: إذا كان الهدف منع إيران من حيازة سلاح نووي، فإنّ الطريق مفتوح أمامها بعد عام 2025 حيث “بند الغروب”.
وما الفارق بين الحصول على قنبلة بعد سنة أو بعد خمس سنوات؟ وإذا كان الهدف منع طهران من تطوير الصواريخ الباليستية، فإنّ الاتفاق لم يشمل هذا الأمر الذي يعتبره خامنئي مسألة حياة أو موت.
وإذا كان الهدف كبح النفوذ الإيراني في المنطقة، فإنّ طهران رفضت البحث فيه مع واشنطن خلال التفاوض على الاتفاق وبعده، لأنّ مشروعها الإقليمي هو الوجه الآخر للجمهورية الإسلامية.
واللعبة مستمرة، ومشكلة المنطقة أنها الرهينة والجائزة معاً في الصراع الجيوسياسي.
اندبندت العربي