توقيف أحد أكبر بارونات تجارة المخدّرات والقمار في بغداد، لم يكن مجرّد كشف عن سلسلة من الجرائم وتفكيك لعصابة، بل هو تفجير لفضيحة كبرى تتعلّق بميليشيات الحشد الشعبي وتظهر مدى اختلاط نفوذ الميليشيات بسلطة الدولة وتداخل أنشطتها بعمل الأجهزة الرسمية وعدم توفيرها أقذر الطرق في جمع المال لقادتها ومنتسبيها.
بغداد – بعدما كان صديقا مقربا لعدد من أهم قادة الحشد الشعبي والمسؤولين والساسة، تحول الحاج حمزة الشمري، في ظروف غامضة، إلى “زعيم المافيا الأكبر في العراق”، بعدما جرى اعتقاله في بغداد وتوجيه سلسلة من التهم له، أبرزها إدارة مواقع لعب القمار والدعارة وتجارة المخدرات.
لا يملك أحد تاريخا واضحا لصعود هذه الشخصية، التي تحيط بها الشبهات، بالرغم من بروز علاقتها بشكل مفاجئ خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، مع كبار قادة الفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران، وبعض من أهم الساسة والمسؤولين.
وخلال الأعوام الأخيرة، ذاع صيت “الحاج حمزة” بوصفه أحد أشهر داعمي قوات الحشد الشعبي والمدافعين عنها، إذ قدم تبرعات لهذه القوة بملايين الدولارات، ومول أعمالا خيرية لصالحها، من دون الخوض في مصدر هذه الأموال.
ويقول سكان المنطقة التي يقع منزل الحاج حمزة فيها، وسط بغداد، إن قيادات في الحشد الشعبي وسياسيين ومسؤولين بارزين، اعتادوا التردد على هذا المكان، الذي يشتبه في أنه يقدم خدمات جنسية لهم.
الحاج حمزة الشمري
وبمرور الوقت، تحول الحاج حمزة، إلى “خط أحمر”، وهو المصطلح الذي يستخدم لتعريف شخصيات في الحشد الشعبي أو على صلة به، يمكن أن يؤدي المساس بها إلى القتل.
لكن علاقات وتحركات الحاج حمزة، خارج الوسط السياسي، كشفت عن بعض جوانب شخصيته الغامضة، إذ ظهر إلى جانب نجوم عراقيين وعرب في مجالات شتى، منها على سبيل المثال الفن والرياضة.
ولعل أولى الإشارات التي ربطت هذه الشخصية بعلامات استفهام عديدة، جاءت من مكتب وزير الداخلية السابق قاسم الأعرجي، الذي اتخذ قرارا مفاجئا بإغلاق صالات القمار في بغداد، من دون الكشف عن أسبابه.
وبالنسبة للكثير من العراقيين، فإن وجود صالات للقمار في قلب بغداد، هو أمر مفاجئ بحد ذاته، وتضاعفت المفاجأة عندما انكشف للرأي العام أن هذه الصالات مرخصة وفقا للقانون، فبدأت الأسئلة تطرح عن مرتاديها، والجهة التي يمكن لها حماية هذا النوع من الأعمال في بغداد، لتقفز إلى الواجهة أسماء قيادات بارزة في الحشد الشعبي، قيل إنها ترعى هذا الملف.
ونقلت مصادر مقربة من وزير الداخلية السابق، أن “الحاج حمزة، عرض ملايين الدولارات على الوزير قاسم الأعرجي، مقابل الموافقة على السماح بعودة صالات القمار، وهو ما رفضه الوزير”، بعد معلومات من مصادر متعددة، عن الأموال الطائلة التي يجري تبديدها داخل هذه الصالات.
وبمجرد تشكيل حكومة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، وحتى قبل تسمية وزير الداخلية الجديد فيها، أعاد الحاج حمزة افتتاح صالات القمار الخاصة به في فندقين اثنين من فنادق بغداد الراقية، ما أعاد طرح الأسئلة ذاتها عن مشروعية هذه الأعمال والجهات التي تحميها.
وشاع في بغداد أن هذه المواقع، تحظى بحماية خاصة من مجموعات مسلحة على صلة ببعض قادة الحشد الشعبي، ما يعني أن دخولها من قبل قوات نظامية، هو أمر مستحيل.
ومع توارد المعلومات عن حجم الأموال الذي يجري تداوله داخل هذه الصالات، وصلة الأمر بالحشد الشعبي “المقدس”، اتسعت دائرة الحرج.
وفجأة، نشر الحشد الشعبي معلومات عن تنفيذه عملية بأمر من عادل عبدالمهدي شخصيا، ضد صالات القمار في بغداد.
وقال الحشد الشعبي إن “مديرية الأمن” التابعة له، نفذت “الحملة الأكبر في تاريخ العراق لملاحقة مافيات الروليت وصالات القمار وتجار المخدرات وبيع وشراء النساء”، مضيفا أن الحملة “أسفرت عن إلقاء القبض على المدعو حجي حمزة الشمري زعيم المافيا الأكبر في العراق والمسيطرة على جميع أماكن لعب القمار والدعارة وتجارة المخدرات“.
وتابع “تم اعتقال 25 آخرين من أتباعه ومسؤوليه الذين كانوا يدعون انتماءهم إلى الحشد الشعبي ويمتلكون هويات مزورة والذين فتكوا ببعض الشباب العراقي من خلال توريطهم بتعاطي المخدرات وزجهم في صالات القمار من أجل كسب ملايين الدولارات يوميا”.
ومضى بيان الحشد إلى القول “من خلال الحملة، تمت مصادرة عدد كبير من آلات القمار والمواد المخدرة وبعض المقتنيات، وجاء ذلك وفق مذكرات قضائية أصولية”.
وأضاف “بعد تنفيذ العملية النوعية بنجاح تم تسليم المطلوبين مع ما تم مصادرته من مواد مخدرة إلى الأمن الوطني من أجل التحقيق معهم وعرضهم على القضاء لينالوا جزاءهم العادل”.
وقال إن “بعض مواقع التواصل الاجتماعي الداعمة لهذه المافيات” نشرت “لقطات من كاميرات المراقبة لأبطال أمن الحشد وهم يداهمون أوكار الجريمة والفساد، وروجت بأن العملية لم تتم وفق أوامر قضائية وأن المواد التي تمت مصادرتها قد سرقت”، مؤكدا أن “الحقيقة أن هؤلاء الأبطال كسروا شوكة من يتاجر بدماء شبابنا واتخذوا من الدعارة والقمار والمخدرات وسيلة لتكوين عصابات ورؤوس أموال ضخمة”.
وبالرغم من أن هذا الإعلان جاء لدرء شبهة الصلة بين الحشد الشعبي والحاج حمزة، إلا أنه كان بالنسبة للمراقبين دليل إدانة للحشد نفسه، مع ما تضمنه من إشارات إلى سرقة بعض الأموال خلال المداهمة.
واعتبر الكاتب العراقي فاروق يوسف أن الحاج حمزة الشمري لن يكون الشخص الأخير في حرب التصفيات. فالمافيات التي هي الظهير المالي للحشد الشعبي لا يمكن السيطرة عليها بطريقة منظمة. ذلك لأنها تدير الجزء الأكبر من عملياتها في الخفاء. أما المعلن منها فهو ما يمكن أن يشكل مادة لأحاديث العامة.
ولم يستبعد يوسف في تصريح لـ”العرب” أن تقوم القوى التي تضررت بسقوط الشمري بتوجيه ضربة إلى رموز مافوية أخرى فاعلة على مستوى الاتجار بالبشر والمخدرات وإدارة صالات القمار وبيوت الدعارة. ولا تكمن فضيحة الشمري في الكشف عنها علانية بل في المكانة التي حاز عليها رجل قامت مهنته على تدمير المجتمع بالرغم من أن لقب “الحاج” لا يزال يرفق باسمه حين يذكر، كما أن أحدا لا يستشعر خطورة الإساءة إلى صفة دينية من خلال ربطها بشخصية مشبوهة. وهو ما يمكن أن يشير إلى العديد من الشخصيات التي يُشار إليها بألقاب من نوع “السيد” و”الحاج” بالرغم من أنها تتاجر بالرذيلة.
ويسلط سطوع نجم الشمري وأفوله الضوء على الواقع العراقي الذي صار يُدار من قبل جهات لا يُعرف عنها سوى نفوذها المكتسب من الخدمات السرية التي تقدمها لرموز السلطة في العراق. وإذا ما كانت تلك الخدمات قد خرجت إلى العلن فما ذلك إلا بسبب انتشارها واتساع رقعتها في ظل الحماية التي توفرها الميليشيات لها. وإذا ما تمت التضحية بـ”الشمري” باعتباره خروفا للعيد فإن الخدمات التي كان يقدمها لن تتأثر في شيء. فهناك المئات من أشباهه سيؤدون وظيفته التي لا يمكن التخلص منها بعد أن صارت جزءا رئيسا من مصادر دخل الحشد بعد أن انقطعت تمويلاته القادمة من إيران.
ويتساءل طارق حرب، وهو أحد أبرز الخبراء القانونيين في العراق، عما إذا كانت عملية اعتقال الحاج حمزة ستطلق “حرب مافيات وتصفيات بين المتصدرين والمتنافسين على احتكار هذه التجارة؟”. وعن الشخصية “التي ستخلف حجي حمزة” على رأس هذه الأعمال؟
وقال إن “الأرباح الناجمة عن تجارة القمار في بغداد، توازي أو تفوق ما تأمل الحكومة الاتحادية الحصول عليه، من تصدير نفط كردستان” المتنازع عليه بين بغداد وأربيل.
ووصف حرب، المنطقة الواقعة بين “الباب الشرقي وساحة الطيران شمالا، وبدايات الكرادة والعلوية جنوبا” داخل العاصمة العراقية، بأنها “لاس فيغاس بغداد”، في إشارة إلى المدينة الأميركية التي تشتهر بصالات القمار الكبيرة.
ويرى مراقبون أن “إعلان الحشد الشعبي أن تحركه ضد الحاج حمزة، يأتي تلبية لأمر رئيس الوزراء، يطرح علامات استفهام عديدة، فالجهة المخولة بهذا النوع من الاعتقالات هي وزارة الداخلية، وليس الحشد الشعبي”.
وتقول مصادر مطلعة على تفاصيل هذا الملف، إن “الحشد، استخدم اسم عبدالمهدي، للتغطية على عملية تصفية داخلية، ضد شريك تحول اسمه إلى مصدر للشبهات، ولا بد من طي صفحته، حفاظا على التجارة نفسها”، مشيرة إلى أن “ما يؤيد هذه المعلومات، هو استمرار عدد من صالات القمار في العمل في بغداد، بالرغم من الحملة التي يتحدث عنها الحشد”.
وتشير المصادر إلى أن “تحول الحاج حمزة من كاتم للأسرار، إلى مصدر للأحاديث التي تطعن في نزاهة بعض قادة الحشد الشعبي، دفع الحشد الشعبي لإنهاء ملفه من خلال ربطه باتهامات يصعب تصديق مسؤوليته الكاملة عنها، من دون وجود شركاء أقوياء”.
ويتساءل الخبير القانوني العراقي طارق حرب عن المدة التي ستبقى خلالها التحقيقات الخاصة بملف الحاج حمزة سرية، مشيرا إلى أنه بالرغم من أن القانون يتيح لبعض التحقيقات أن تكون سرية، إلا أنها “سرية مؤقتة”، ويجب كشف التفاصيل في وقت ما.
ويشير تفسير حرب، إلى إمكانية وجود تواطؤ في ملف التحقيق، لمنع الفضائح الكبرى، التي تمس قادة كبارا في الحشد وسياسيين بارزين، من الظهور إلى العلن.
العرب