شكلت التصريحات الجديدة لزعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، قيمة مضافة للتقارب والتفاهم السياسي الذي يعرضه حزبه على تركيا، منذ نحو ثلاثة أشهر، قُبيل جولة إعادة الانتخابات البلدية الخاصة في مدينة إسطنبول، أواخر يونيو (حزيران) الفائت، حين سمحت السلطات التركية لمحامي أوجلان بزيارته في سجنه في جزيرة إميرلي التركية منذ عام 1999، بعد سنوات من العزلة المفروضة عليه.
تصريحات أوجلان التي نقلها عنه محاموه، الخميس 8 أغسطس (آب)، ركزت على دعوة السلطات التركية لإيجاد حلٍ للمسألة الكردية في البِلاد، حيث أبدى استعداده لقيادة مثل تلك المفاوضات من الجانب الكردي، مؤكداً قدرته على “إنزال المقاتلين الأكراد من الجبال خلال أقل من أسبوع”. وأعرب أوجلان عن خيبة أمله بالأوضاع الراهنة، قائلاً إنه “قلق جدّاً من السياسات القائمة على التلويح بالحرب، التي تؤدي إلى الخسائر الإنسانيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي تمّت خلال 40 عاماً، وإن الإصرار على مواصلة هذه السياسات، ستنجم عنها عواقب وخيمة على عموم المنطقة”.
مسارات التحول
يأتي التحرك الجديد من أوجلان استكمالاً لمسار التحول الذي جرى على علاقة الطرفين، السلطات التركية وزعيم حزب العمال الكردستاني، في أوائل مايو (أيار) الفائت، حينما سمحت السلطات التركية لمحامي أوجلان وعائلته بلقائه، بعد نحو ثمانية سنوات من منعه من التواصل معهم.
لكن ظروفاً ضاغطة على السلطات التركية قد حدثت منذ ثلاثة أشهر، وما زالت فعالة، تدفعها لأن تعود للقبول بالتواصل مع أوجلان، والقبول به طرفاً سياسياً قادراً على التأثير في مناصريه المدنيين والعسكريين. واستمرارها في القبول بذلك، هو أمر مشجع بالنسبة إلى أوجلان للاستمرار بمبادراته وطروحه السياسية.
فقد كان الآلاف من السجناء السياسيين الأكراد في السجون، في مختلف أنحاء تركيا، يخوضون حملة شاملة للإضراب عن الطعام، لأكثر من شهر، مطالبين بفك العزلة عن زعيمهم. وكانت الحالة الصحية لكثيرين منهم قد دخلت مرحلة حرجة، وهو أمر كان سيتسبب بحرج كبير للسلطات التركية، التي استنجدت بأوجلان لمطالبة مناصريه بإيقاف فعاليتهم التضامنية، وهو ما حدث، وأثبت قُدرة أوجلان على القول الفصل في الجانب الكُردي.
القوة العسكرية
كذلك فإن الأوضاع العسكرية في سوريا، خصوصاً في منطقة شرق الفرات، كانت قد وصلت إلى ذروة الانتصار العسكري لقوات سوريا الديمقراطية على مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي، وتأصلت أواصر العلاقة في ما بينهم وبين قوى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، وفي مقدمها الولايات المتحدة.
قوات سوريا الديمقراطية المرتبطة سياسياً بحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، المتمسك بأفكار وأيديولوجية حزب العمال الكردستاني، الذي أسسه أوجلان وتزعمه منذ أواخر السبعينات من القرن المنصرم. شكل النمو العسكري والسياسي لقوات سوريا الديمقراطية فزعاً لتركيا، التي يبدو أنها تراجعت، ولو خطوة رمزية، في معاداتها المطلقة لحالة هذه القوات في الشمال السوري، وجاءت رسالة أوجلان في لقائه الأول وقتئذ، وكأنها ساعية لطمأنة الطرف التركي، حيث قال في رسالته الأولى “نحن نؤمن بقدرات قوات سوريا الديمقراطية، وأنه يجب حلّ المشاكل في سوريا ضمن إطار المحافظة على وحدة الأرض على أساس الديمقراطية المحلية المنصوص عليها في الدستور الأساسي، بعيداً من ثقافة الاقتتال. ويجب ملاحظة ما يسببه هذا من حساسية لتركيا”. ويمكن للزعيم الكردي أن يستمر في تأثيره في المقاتلين الأكراد في منطقة شرق الفرات.
كان انتصار الفصيل الكردي السوري القريب من أوجلان، عاملاً إضافياً لاستمرار مقاتلي حزب العمال الكردستاني في معسكراتهم الحصينة في المناطق الجبلية الحدودية بين تركيا وإقليم كردستان العراق، على الرغم من الزخم العسكري الشديد الذي قادته قوات الجيش التركي، عبر عمليتي “المخلب 1” و”المخلب 2″، حيث تدخل الجيش التركي برياً في كثير من المناطق من إقليم كردستان، ورافقتها عمليات قصف جوي شبه يومية، من دون أن تتمكن من اقتلاع مقاتلي حزب العمال الكردستاني، كما كانت تتوعد.
شكلت هاتان الفاعليتان العسكريتان أداة مشجعة لأوجلان لأن يقدم مبادراته السياسية تجاه السلطة/ الدولة التركية، لعله يلقى استجابة ما، في ظل شبه حالة التوازن العسكري الحالية مع الطرف التركي.
أحوال السلطة الحاكمة
على أن العامل الأهم لبدء هذه المرحلة، كان يتعلق بالهزيمة القاسية التي تعرض لها حزب العدالة والتنمية وزعيمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات المحلية، التي أجريت في 31 مارس (آذار) من العام الحالي، حيث أثبتت تلك الانتخابات التراجع الشديد في شعبية أردوغان وحزبه الحاكم، خصوصاً أنه خسر بلديات المدن التركية الكبرى.
كان للسلوك الانتخابي للمصوتين في تلك الانتخابات دلالة على أن الأحوال الاقتصادية المتراجعة في البلاد هي المؤثر الأول، حيث تراجع دور الخطابات الشعبوية وشد العصب القومي والديني، الذي كان يمارسه أردوغان وحزب العدالة والتنمية طوال السنوات الماضية. فتلك الانتخابات كانت مؤشراً أساسياً على أن مسار حزب العدالة والتنمية كحزب حاكم وحيد، والمستمر منذ عام 2002، يمكن أن يكون قد وصل إلى نهايته.
في السياق ذاته، فإن تلك الانتخابات أثبتت نجاعة التعاون بين القوى السياسية الكردية ونظيرتها التي في المعارضة التركية، خصوصاً تيار المعارضة الرئيسي، المتمثل بحزب الشعب الجمهوري. ففوز هذا الحزب في معظم المدن الرئيسية خلال هذه الانتخابات المحلية، إنما نتج من تحالف معلن بينه وبين حزب الشعوب الديمقراطية المؤيد للأكراد، وهو أمر قد يكون ضاغطاً ومؤثراً في المسارات السياسية التركية المستقبلية المنظورة، خصوصاً في الانتخابات الرئاسية المرتقبة عام 2022.
هذا التحول في تشكيلة السلطة الحاكمة التركية، وإمكانية تحول الأكراد وقواهم السياسية إلى “بيضة القبان”، يشكل ظرفاً شبيهاً لما كانت عليه تشكيلة السلطة في تركيا أوائل التسعينيات من القرن المنصرم، حينما كان تورغوت أوزال رئيساً لتركيا، وكانت عملية السلام مع المقاتلين الأكراد في ذروة نموها. إلى أن توقفت فجأة، بعد وفاة أوزال. أوزال الذي لا تخلو أي من دعوات أوجلان للسلام في تركيا من الإشارة إلى عهده وقبوله بمبادرات أوجلان.
التدخل الدولي
مراقبون أكراد متابعون لملف العلاقة/ الصراع بين العمال الكردستاني والسلطات التركية، أكدوا أن دعوة أوجلان تحوي على فهم وإشارات واضحة إلى دور المجتمع الدولي، بالذات الولايات المتحدة الأميركية، في ترتيب العلاقة الكردية التركية.
إذ لم تكن مصادفة أن تأتي دعوة أوجلان بعد يوم واحد من الاجتماعات التي كان يخوضها وفد عسكري أميركي مع فريق تركي، لترتيب الأوضاع الأمنية في شمال شرقي سوريا، حيث كان الوفد الأميركي يظهر وكأنه مدافع عن المقاتلين الأكراد في سوريا، المناصرين لأوجلان.
فأوجلان يُدرك أن صورة المجتمع والقوى السياسية الكردية قد تغيرت في قراءة القوى الدولية لأحوال منطقتنا. بعدما بقيت هذه القوى الدولية نحو قرنٍ تنحاز للقراءة التركية للعلاقة بين الطرفين، وأن هذا التبدل الذي حدث خلال السنوات الماضية في موقع الكرد ودورهم، هو عامل فعال لإيمان أوجلان بإمكانية الضغط على السلطة التركية، لإحداث تغييرٍ في موقفها المتعنت من المسألة الكردية، في تركيا ومختلف دول المنطقة.
اندبندت العربي