يصرّ الرئيس ترامب على الدخول في حربٍ تجارية ضد الصين، التي أصبحت عملاقا اقتصاديا، ولأن «السياسة هي أولا وأخيرا، اقتصاد مكثّف»، بالتالي فإن الصين هي عملاق سياسي وعسكري. إن قِصر نظر الرئيس الأمريكي وحزب الحرب في إدارته، الذين ينطلقون من مبدأ «القوة الأمريكية»، التي يعتقدونها قادرة على تطويع بلدان العالم، صغيرها وكبيرها، لذا تراهم يبتعدون عن النهج الدبلوماسي في إيجاد الحلول للمشاكل السياسية والاقتصادية والعسكرية مع دول العالم، لصالح التحدي السياسي والتجاري والعسكري، انطلاقاً من غرور القوة والغطرسة.
النزاع التجاري بين أمريكا والصين بلغ أشدّه، وبالتأكيد سیجرّ العالم إلى أزمات اقتصادية وسياسية وعسكرية. وعندما جرى طرح العولمة، كان مبدأها الأساسي العولمة الاقتصادية في المقام الأول، ثم السياسية، وتتبع ذلك الجوانب الاجتماعية والثقافية وهكذا. امتدت العولمة لتكون عملية تحكم وسيطرة ووضع قوانين وروابط من قبل مجموعة من الدول الرأسمالية، المتحكمة في الاقتصاد العالمي، التي شهدت نموا اقتصاديا وسياسيا كبيرا، جعلها تبحث عن مصادر وأسواق جديدة لمنتجاتها، ما يجعل حدودها الاقتصادية تمتد إلى ربط مجموعة من العلاقات مع الدول الأخرى وبالأخص النامية.
هذه الدول المتطورة تدخلت على جميع المستويات في هويات الدول الأخرى، وفي الضغط من أجل تحرير حركة رؤوس الأموال فيها، وإزالة القيود التي تحكمها، وقد ساعد في ذلك التقدم التكنولوجي الهائل، وتسارع عمليات الابتكار المالي، والتجديد في أساليبه وأدواته. ترافق هذا مع ارتفاع وتيرة وحدّة الأزمات المالية المتتالية منذ ثمانينيات القرن الماضي، فأصبحت الأزمات المالية أكثر تكرارا وشمولية وانتشارا، وهذا ما أثار الشكوك في حقيقة أهداف العولمة، لقد تضررت دول واقتصادیات وصناعات كثیرة، بسبب العولمة التجاریة والاقتصادیة، فالمصنعون والسیاسیون المحافظون یقولون، إن الولایات المتحدة فقدت أكثر من 300 ملیار دولار، وفقد الأمريكان كثیرا من وظائفهم وأعمالهم، بسبب المنافسة التي لا یحتملونها. ویقول ترامب إن السیاسات الحمائیة الجدیدة تعود على الاقتصاد الأمريكي بعوائد كبیرة، لكنها عوائد متأتیة من الرسوم الجمركیة التي یدفعها الأمريكيون ولیس الصینیين، كما بدأ انخفاض ملموس في الطلب على السلع بسبب ارتفاع كلفتها. ويضيف ترامب، وسوف یتضرر المزارعون الأمريكيون والمدن التي تعتمد على التجارة الدولیة، فالصین قامت (ردا على إجراءات ترامب) برفع الرسوم الجمركية على السلع الصينية، باتخاذ إجراءات وفرض رسوم جمركیة على الواردات الأمريكیة. يعتقد ترامب أن إجراءاته ستؤدي إلى: «أن المصانع الأمريكیة سوف یكون في مقدورها المنافسة وتوفیر البدیل للسلع الصینیة»، لكنه لا يدرك، أن ذلك سیستغرق وقتا طویلا، كما أن الكلفة المنخفضة للمنتجات الصینیة تجعل لها أفضلیة، بسبب الأجور والكلف المرتفعة للإنتاج في أمريكا. كما أن الصین قوة تجاریة وصناعیة راسخة یصعب استبدالها أو الاستغناء عنها.
النزاع التجاري بين أمريكا والصين بلغ أشدّه، وبالتأكيد سیجرّ العالم إلى أزمات اقتصادية وسياسية وعسكرية
وفي تجربة أمريكیة سابقة، فرض الرئیس أوباما عام 2009، رسوما جمركیة بنسبة 35% على إطارات السیارات الصینیة، مؤملا أن ینعش سوق الوظائف الأمريكیة، ولكن أسعار الإطارات الأمريكیة كانت تباع بسعر مرتفع یفوق بنسبة كبیرة أسعار الإطارات الصینیة. وقدرت الكلفة الإضافیة التي تكبدها المستهلكون الأمريكيون في عام 2011 بألف ومئة ملیون دولار. الصینیون یعانون أیضا، فالاقتصاد الصیني یتباطأ، وتصدر الصین إلى الولایات المتحدة أكثر مما تستورد منها. لقد دخلت العلاقات الصینیة الأمريكیة مرحلة لم تعد تحتمل العداء والقطیعة، ولیس أمام الدولتین سوى التعاون والتنافس في آن معا. ولكن، هل فقدت الولایات المتحدة المبادرة ولم تعد قادرة على قیادة العالم؟ وهل ستتحول الصین في هذا الصراع إلى قوة عظمى سیاسیا؟ إذ طالما نأت الصین بنفسها عن الانغماس في السیاسة العالمیة. لكنها تعید المشهد الأمريكي نفسه قبل مئة سنة، عندما صعدت الولایات المتحدة اقتصادیا وتجاریا، وظلت تعزل نفسها عن السیاسة العالمیة، لكن لا یمكن للتقدم الاقتصادي أن یستمر وحده بدون أن یحمیه ویعززه تقدم سیاسي والتزام عالمي، وهو أمر لیس سهلا أیضا، فیحتاج من الصین أن تجعل من نفسها دولة ذات جاذبیة حضاریة عالمیة. وأن تنفق على السیاسة والالتزامات والمنظمات العالمیة.
نصف قرن مضى على زيارة نيكسون وكيسنجر للصين، وبدء العلاقات الصينية الأمريكية. لقد استغلت الولايات المتحدة أيما استغلال الخلاف الأيديولوجي العميق بين العاصِمتين الشيوعيتين المتنافستين آنذاك بشدة: موسكو وبكين، ما أدى إلى انقسام الحركة الشيوعية العالمية حينها، بين الاتجاه السوفييتي والآخر الصيني (الماوي)، فالاخيرة كانت تعيش عهد مؤسس الجمهورية ماوتسي تونغ، فيما كانت الأولى تشهَد عصر ما بعد ستالين، خصوصاً صعود وسقوط خروتشوف، الذي بدا ومَن خلَفَه في الكرملين ليونيد بريجينيف شيوعياً تحريفياً في نظر الصين. ترامب بالطبع ليس نيكسون ، الذي ارتكب خطأه القاتل في التنصت على منافسه الديمقراطي، فيما عرف بـ«فضيحة ووترجيت» وقد كانت سببا في إسقاطه من منصبه، كذلك، فإن الثعلب الماكر اليهودي كيسنجر ليس كالمتصهين مايك بومبيو. ورغم أن الأيديولوجيا العقائدية لم تتغير في الصين، إلا برحيل ماوتسي تونغ ومحاكمة عصابة الأربعة ( التي ضمت زوجة الرئيس ماو). وتسلم من بعده، دينغ شياو بينغ، الذي قاد الصين الشعبي، وتبنى رؤية اقتصادية منفتحة، ساهمت بتحقيق البلاد نهضة اقتصادية كبرى، وكانت له نبوءة أطلقها عام 1978 قال فيها: إن الصين تحتاج إلى نصف قرن لاستكمال عملية التحديث والسيطرة السياسية والاقتصادية، وهو يعتبر بالفعل مهندس الإصلاح الصيني.. تسلّم من بعده شي جين بينغ، الذي واصل سياسات سلفه، ونجَح وما يزال في مراكمة نجاحات على مستوى إعادة تنظيم صفوف الحزب الشيوعي الصيني وتطهيره من الفساد والفاسدين، على نحو يمنحه أفضلية في الصين الجديدة الصاعدة سلميا نحو القمة، وهو صعود يُثير حفيظة واشنطن التي ترى في مواجَهتها المفتوحَة والمحتدِمة الراهنة مع بكين «حرباً أيديولوجية» كما ورد في تصنيف التقرير السنوي لمدير وكالة الأمن القومي الامريكي، الذي رأى أيضا أن الصين تسعى لإشاعة «رأسمالية مُستبدّة» في مواجهة «الليبرالية الديمقراطية» للغرب. بالفعل فإن أسبابا كثيرة تدفع لمواجَهة ساخِنة بين العملاقين الاقتصاديين، التشجيع الأمريكي لتايوان، والقيام بتسليحها وبذا يجري ضرب المبدأ الأمريكي «صين واحدة، التشجيع الأمريكي للجماعات الانفصالية في هونغ كونغ وغيرها من الأقاليم الصينية، التنافس على السيادة على بعض الجزر في بحر الصين الجنوبي، الحملة الإعلامية الأمريكية المقصودة لاستعراض أحداث ميدان سان تيان مين في ذكراها الثلاثين. كل ذلك يجري في إطار المنافسة للجلوس على المقعد الأول في العالم، بكل ما يعنيه لواشنطن الطامحة للبقاء وحدها في تلك المكانة، التي ظنّت انها ستدوم لها حتى نهاية القرن (21) الذي سموه بالقرن الأمريكي في مرحلة تستند إلى الشعور بالعظمة، من قبل مفكّري الرأسمالية بنسختها النيوليبرالية المتوحشة، التي تعمّقت بعد انتهاء الحرب الباردة. قد تصِل الأمور بين الولايات المتحدة والصين الى حافة الهاوية، لكن بدون تحوّل المواجَهة الباردة الراهِنة الى مواجَهة ساخنة، رغم التحذيرات الصينية الحادة منها، وإعلان الصين على لسان وزير دفاعها وي منغ خه، خلال كلمة ألقاها بمنتدى «شانغري ـ لا» الأمني في سنغافورة: إن الصين ستقاتِل حتى النهاية كل من يحاول الفصل بينها وبين تايوان، التي تعتبرها الصين جزءاً منها، مشيرا في الوقت نفسه إلى «أن بكين ستبقي الباب مفتوحا للحوار».
خلاصة القول، إن لدى واشنطن وبكين ما يسمح لهما بالإبقاء على حد أدنى من التواصل، وعدم الوصول إلى نقطة اللاعودة، تلك النقطة التي سيكون وصولها حتميا، إذا ما شعرت إحدى الدولتين، أو كلتاهما بأن حرباً محدودة أو خاطفة، يمكن ان تمنحها فرصة فرض شروطها، أو إعاقة وصول خصمها إلى مرحلة تحقيق أهدافه الكونيّة، لكن مَن سيضمَن انتهاء تلك الحرب؟
القدس العربي