في «كتاب الضحك والنسيان» للروائي التشيكي ميلان كونديرا عبارة بليغة تقول أن نضال الإنسان ضد السلطة الغاشمة هو نضال للذاكرة ضد النسيان.
منذ بدايات القرن العشرين، والفلسطينيون يناضلون ضد سلطة غاشمة نزلت ببلادهم فاحتلت الأرض وأنشأت عليها المستعمرات الاستيطانية، وأعملت القتل والتهجير في الناس، ثم أعلنت قيام دولة إسرائيل وفرضت على الفلسطينيين إما العيش دون دولة مستقلة وتحت الاحتلال في الجزء الشرقي من القدس والضفة الغربية وقطاع غزة أو حياة الشتات. تلك السلطة الغاشمة، وهي لم تتوقف لحظة عن استخدام القوة المفرطة ضد الفلسطينيين وضد جوارها العربي ولم تمتنع عن إشعال الحروب الكبيرة والصغيرة كتعبير عن غطرسة قوتها العسكرية وتحالفاتها الدولية ولم ترغب أبدا في التوصل إلى تسوية سلمية حقيقية تضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة وعودة اللاجئين من الشتات، تستكمل اليوم استعمارها الاستيطاني مستغلة الصمت العربي والعالمي ومواصلة العصف بقرارات الشرعية الدولية التي أقرت الحقوق التاريخية للفلسطينيين في القدس.
إزاء تلك السلطة الغاشمة يناضل الشعب الفلسطيني نضال الذاكرة ضد النسيان. قتل وطرد الناس من المدن والقرى التي صارت في 1948 «أرض دولة إسرائيل» ودفعوا إلى الجزء الشرقي من القدس والضفة الغربية (تحت الإدارة الأردنية بين 1948 و1967) وقطاع غزة (تحت الإدارة المصرية بين 1948 و1967) وإلى الجوار العربي في لبنان وسوريا. فلم يكن من العائلات الفلسطينية غير أن أخذت معها مفاتيح بيوتها وصكوك ملكية مزارعها التي طردت منها ظلما وقهرا، وتمسكت بالروايات الموثقة عن الحقوق المغتصبة وحق العودة وتوارثتها عبر الأجيال دون أن تخبو في الأذهان أو في الضمائر ذاكرة المكان، ذاكرة فلسطين.
وحين احتلت السلطة الغاشمة في 1967 بقية القدس وكل الضفة والقطاع وأعملت في الناس مجددا القتل والطرد والتهجير، قاوم الفلسطينيون تارة مقاومة مسلحة وأخرى من خلال انتفاضات سلمية واجهتها السلطة الغاشمة بقوة مفرطة وعنف ممنهج لم يخجل ممارسوه من ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وانتهاكات مفزعة وثقتها عديد التقارير الدولية، حكومية وغير حكومية.
واضطلع نضال الذاكرة ضد النسيان بدور أساسي في مقاومة الفلسطينيين للسلطة الإسرائيلية الغاشمة، وفي تثبيت الحق في العودة وحق قيام الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية إزاء تجاهل القوى الكبرى وعجز الحكومات العربية عن مواجهة غطرسة إسرائيل.
السلطة الإسرائيلية الغاشمة، لم تتوقف لحظة عن استخدام القوة المفرطة ضد الفلسطينيين وضد جوارها العربي ولم تمتنع عن إشعال الحروب الكبيرة والصغيرة كتعبير عن غطرسة قوتها العسكرية وتحالفاتها الدولية
بين 1967 واليوم، دخل نضال الشعب الفلسطيني في أطوار كثيرة ومنحنيات صعود وهبوط لحركة التحرر الوطني التي قادتها منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها المختلفة قبل أن تتشكل في الضفة الغربية وقطاع غزة حركة المقاومة الإسلامية حماس (في ثمانينيات القرن العشرين) وقبل أن تتبلور أحزاب المعارضة العربية داخل إسرائيل. تعاقبت، وأحيانا تواكبت، مراحل المقاومة المسلحة متبوعة بالانتفاضات السلمية التي تلتها مفاوضات للتسوية السلمية على أساس حل الدولتين ووضعية القدس كعاصمة للدولتين، الجزء الشرقي لفلسطين والغربي لإسرائيل. قامت سلطة وطنية فلسطينية في الضفة الغربية، ولم تقم بعد الدولة المستقلة ولم يتوقف لا إرهاب الدولة ولا الإجرام الاستيطاني لا في القدس ولا في الضفة.
أنهت إسرائيل بصورة أحادية احتلالها لغزة وانسحبت عسكريا منها، غير أن صراعها المسلح مع حماس لم يتوقف وتكررت حروب تدمير القطاع وتواصل الحصار الظالم لأهله.
تلاحقت الانتفاضات السلمية للفلسطينيين داخل إسرائيل وفي الأراضي التي احتلت في 1967 وألهمت العرب وأيقظت بعض الضمائر على امتداد العالم بعد أن واجه الأطفال والشباب والنساء والرجال آلة القتل الإسرائيلية وإرهاب الدولة تارة بالحجارة وتارة دونها.غير أن مقاومة الفلسطنيين لم يغب عنها التورط في جرائم عنف ضد مدنيين إسرائيليين على نحو أفقد نضالهم المشروع شيئا من مصداقيته الأخلاقية ومن التعاطف العالمي معه.
فاوضت السلطة الفلسطينية الحكومات الإسرائيلية منذ منتصف التسعينيات دون أن يسفر ذلك عن قيام الدولة المستقلة أو إقرار حق العودة أو حتى مجرد إيقاف الإجرام الاستيطاني. قاومت حماس عسكريا، فدمر القطاع وحوصر أهله ولم تتراجع الجرائم الإسرائيلية.
تبدلت مواقع الحكومات العربية بين الصراع والحرب وبين التفاوض والتسويات السلمية، بين دعم المقاومة الفلسطينية وبين الاكتفاء بتأييدها تفاوضيا أو التخلي عنها. وكذلك تبدلت مواقع القوى الكبرى بين دعم لإسرائيل وإلصاق لاتهامات الإرهاب بالفلسطينيين، وبين اعتراف بالظلم الواقع على الشعب الفلسطيني وتأييد حقه التاريخي في العودة وفي الدولة المستقلة. وفي الحالات جميعا، لم تتوقف الجرائم التي ارتكبتها السلطة الغاشمة في اسرائيل ولا اقترب الفلسطينيون من حقوقهم المشروعة.
وعلى امتداد الأطوار الكثيرة ومنحنيات الصعود والهبوط لحركة التحرر الوطني الفلسطينية، ظل نضال الذاكرة ضد النسيان، نضال الفلسطينيين للإبقاء على الحق في العودة وفي الوطن وفي الدولة المستقلة حيا، نضالهم ضد السلطة الغاشمة الإسرائيلية أمضى ما في جعبتهم إزاء واقع القتل والطرد والتهجير والاستيطان والاحتلال. نضال الذاكرة ضد النسيان داخل إسرائيل وفي الضفة وغزة وفي الشتات هو الذي حال إلى يومنا هذا دون أن تصفى القضية الفلسطينية المشروعة ومنع أن يتحول الاستيطان والاحتلال، على الأقل في القدس الشرقية والضفة وغزة إلى حقائق دولية معترف بها. بعد أكثر من 100 عام من وعد بلفور والاستعمار الاستيطاني على أرض فلسطين لم تصف القضية ولم يغب نضال الناس.
القدس العربي