حوادث الطرقات في العراق مهما عظمت وارتفع عدد ضحاياها تبقى من المشاكل الثانوية التي لا يسلط عليها الإعلام مساحة تستحقها، أو تخصص لها الجهات الحكومية المسؤولة ندوات واجتماعات مكثفة تخرج بحلول تتعاون عليها الأطراف كافة، باعتبارها تهدد حياة المواطنين، فضلاً عن مشاكل أخرى عديدة تكلف القطاع الحكومي والخاص خسائر مختلفة. فالبلد الذي كان حتى أقل من عامين يخوض معارك شرسة ضد تنظيم “داعش” قبل أن يعلن القضاء عليه في ديسمبر/ كانون الأول 2017، يعاني من مشاكل عديدة سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية، طغت بحضورها المستمر منذ غزو العراق عام 2003، على مشاكل أخرى باتت تصنف على أنّها أقل أهمية مثل حوادث الطرقات.
خطورة حوادث الطرقات في العراق تؤكدها أرقام وتقارير رسمية، ومتضررون من جراء هذه الحوادث. ومن أهم أسبابها سوء حالة الطرقات الخارجية، أي الرابطة بين المحافظات، التي تضررت بفعل تفجيرات سابقة، بعضها يعود لتنظيم “داعش” وقبلها تنظيم القاعدة، وأخرى لمعارك بين فصائل المقاومة والقوات الأميركية بعد الاحتلال، عدا عن الفساد المستشري الذي حوّل عشرات المشاريع إلى مبالغ أنفقت من دون تنفيذها، أو بتنفيذ رديء جداً.
في نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، أعلنت مفوضية حقوق الإنسان في العراق، أنّ 23.556 شخصاً لقوا مصرعهم أو أصيبوا جراء حوادث السير خلال 2018. وقال عضو مفوضية حقوق الإنسان، فاضل العزاوي، في بيان إنّ “المفوضية رصدت ارتفاعاً ملحوظاً في عدد حوادث الطرقات بسبب انعدام متطلبات السلامة في الطرقات وفي السيارات المستخدمة من قبل المواطنين وقِدم الطرقات”. وأوضح أن عدد الحوادث المرورية بلغ 16.587، وعدد الوفيات وصل إلى 5152، وبلغ عدد المصابين 18.404. وأكد الغزاوي أنّ النسبة الأكبر من إجمالي الحوادث كانت لحوادث الاصطدام بعدد وصل إلى 12.421، ثم حوادث الدهس بعدد 3276، مشيراً إلى أنّ إجمالي حوادث الطرقات الرئيسية بلغ 4695، ثم الطرقات الفرعية بـ1779.
من جهتها، قالت وزارة الصحة والبيئة العراقية، في مطلع يناير/ كانون الثاني 2018، إنّ عدد ضحايا الحوادث المرورية في البلاد بلغ نحو 100 ألف قتيل ومصاب خلال السنوات العشر الماضية، معتبرة أنّ حوادث المرور هي الخطر الثاني الذي يهدد العراقيين بعد العمليات الإرهابية.
وتعتبر حوادث الطرقات الخارجية من أكثر وأخطر الحوادث المرورية في العراق، وأهم الأسباب التي جعلتها خطرة إلى هذا الحدّ تلف الطرقات نتيجة تعرضها لعمليات تفجير ومعارك، بحسب أحمد الزيدي، وهو عضو مجلس محلي في محافظة ديالى. يقول الزيدي لـ”العربي الجديد” إنّ “الأعمال الإرهابية هي المتسبب الأكبر في السوء الذي حلّ بالعديد من الطرقات. فالطريق الرابط بين محافظتي ديالى وكركوك هو الأخطر بين الطرقات الخارجية، إذ كان مسلحون من القاعدة ومن بعدها داعش ينفذون عمليات تفجير تستهدف القوات الأمنية وقبلها القوات الأميركية هناك”. يوضح أنّ “الفساد المالي المتفشي في الدوائر والمؤسسات الحكومية وراء عدم تأهيل هذا الطريق بالشكل الصحيح”، مؤكداً أنّه “لا يمر يوم من دون وقوع أكثر من حادث مروري، يفضي إلى قتلى”.
سائقو سيارات الأجرة، بأنواعها الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، وسائقو الشاحنات والناقلات، ممن يقطعون هذا الطريق باستمرار، يعرفون جيداً خفاياه، بحسب عدد منهم تحدثوا إلى “العربي الجديد”. يقول عمار حسن، الذي يعمل منذ أكثر من عشرة أعوام على الطريق الرابط بين ديالى وكركوك، وينطلق من بغداد مروراً بهذا الطريق الذي يقطعه للوصول إلى محافظات إقليم كردستان، إنّه يحفظه عن ظهر قلب، ويعلم في أيّ مكان منه توجد حفر أو تشققات وغيرها. يضيف: “يبلغ الطريق من بغداد حتى أربيل أكثر من 460 كيلومتراً، ويمرّ بعدة محافظات، لكنّ قسمه الممتد من ديالى حتى كركوك بمسافة تصل إلى نحو 200 كيلومتر هو ما نطلق عليها طريق الموت”. يوضح أنّ طريق الموت هذا “يحتاج إلى تجديد بالكامل، فهو يربط العراق من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله، وتسير عليه قوافل باصات السفر وناقلات النفط وشاحنات نقل البضائع لتصل إلى تركيا، وبذلك فهو طريق دولي وحيوي مهم”. يستطرد: “أعلم جيداً مواقع الخطر في هذا الطريق، فهناك دلالات نعلمها نحن سائقي المركبات الذين نقطعه منذ فترة طويلة”.
بالرغم من خبرتهم بمواقع الخطر من حفر، يشترك سائقو المركبات الذين يعملون على هذا الطريق، طرفاً في حوادث خطيرة. وبحسب ما يؤكد قصي سالم الذي يقود شاحنة كبيرة لنقل البضائع بين بغداد وإقليم كردستان، فإنّ أغلب تلك الحوادث سببها سائقون يجهلون ما يصفها بـ”أسرار الطريق”. يوضح سالم، الذي يعمل منذ سبع سنوات على هذا الطريق، أنّ “من يقود سيارته على مثل هذه الطرقات يتوجب عليه أن يكون يقظاً إلى أعلى درجة، وأن يعلم الأماكن الخطرة فيها، فلهذه الطرقات أسرار من يجهلها قد يتسبب بحادث مميت”. يشير إلى أنّ “هذه الأسرار تتعلق بطبيعة المناطق والقرى التي يمر فيها الطريق، فكثير من سكان هذه المناطق لا يأبهون بقواعد السلامة، وقد يجتازون الطرقات هذه بسياراتهم أو جراراتهم بشكل مفاجئ، وأحياناً تجتاز الحيوانات الطريق وفجأة أيضاً، وهذا بالإضافة إلى تموجات وحفر ومطبات، تعتبر من الأسرار التي يحفظها سائقو المركبات الذين يعملون على هذه الطرقات”.
لهذا الطريق ضحايا كثيرون، أفضلهم حالاً من كانت خسارته مادية فقط، بحسب هادي الزاملي، الذي أصيب بكسور في قدميه ويده وصدره، أجبرته على ملازمة السرير خمسة أشهر. يقول الزاملي لـ”العربي الجديد” إنّ “اجتيازاً خاطئاً لمركبة بيك آب، تسببت بوقوع حادث أدى إلى اصطدام عدد من السيارات، انتهى بمقتل ثلاثة أشخاص وجرح كثيرين أجهل عددهم”. يضيف: “ما خسرته سيارتي التي كانت مصدر رزقي، وصحتي التي لم تعد تعينني على العمل مثل السابق”. يستدرك: “لكن على كلّ حال، أنا أفضل من كثيرين غيري أصيبوا في حوادث مماثلة، وباتوا يتمنون لو أنّهم لم يبقوا أحياء، إذ باتت لديهم إعاقات تمنعهم من الحركة”.
بدوره، يعتبر عمر الدوري، نفسه محظوظاً، إذ ترك العمل في “طريق الموت” منذ أكثر من ثلاث سنوات. يوضح لـ”العربي الجديد” أنّه غيّر مهنته بعد حادث كاد يفقده حياته: “تعرضت لحادث مميت على الطريق الرابط بين ديالى وكركوك. لقد نجوت بأعجوبة بعدما فقدت سيارة تسير أمامي السيطرة بسبب عدم تمكنها من تجاوز حفرة قديمة وسط الطريق وتسببت بحادث تصادم أمامي لم أستطع تلافيه”. يتابع: “على الرغم من أنّ سيارتي تحطمت بالكامل فقد نجوت بأعجوبة، ولم أتعرض لأيّ جروح أو كدمات، واعتبرت الحادث إنذاراً إلهياً لأترك العمل هناك”.
العربي الجديد