قطعت الانتفاضة الشعبية في السودان شوطاً جوهرياً على طريق الانتقال إلى حكم مدني ديمقراطي، وذلك في أعقاب التوصل إلى اتفاق بين ممثلي الحراك الشعبي والمجلس العسكري حول تشكيل مجلس سيادي يتألف من ستة مدنيين وخمسة عسكريين، يفترض به أن يشرف على مرحلة انتقالية مدتها 39 شهرا. كذلك تم الاتفاق على تأسيس مجلس تشريعي يكون بمثابة برلمان، تشغل «قوى الحرية والتغيير» نسبة 67٪ من أعضائه، مع تخصيص حصة 40٪ منه للنساء. وأخيراً، وبناء على اقتراح ممثلي الاحتجاجات، جرى التوافق على اختيار عبد الله حمدوك لتشكيل الحكومة الانتقالية، الذي أدى اليمين الدستورية بالفعل.
وكان مقدراً لإنجاز هذه الخطوات الهامة أن تضفي سلاسة كبيرة على مشاورات حمدوك لتشكيل الحكومة الجديدة وإعلانها في 28 آب/ أغسطس الماضي حسب الموعد المقرر، غير أن تأجيلاً أول حال دون هذا، تلاه تأجيل ثان في غمرة تقارير وإشاعات تتحدث عن بوادر خلافات بين رئيس الحكومة المكلف وقوى الحرية والتغيير، وصفها قيادي في المعارضة بأنها «كبيرة». وأما الممثل الأقوى للجيش في المجلس السيادي الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، فقد حذر من «وجود خلايا نائمة تسعى لإفشال الحكومة الانتقالية الجديدة»، منتهزاً الفرصة للإشادة بدور «القوات النظامية في حفظ الاستقرار»، والتلويح بأنها سوف «تكون بالمرصاد» للمراهنين على فشل الحكومة.
وهنا يجدر التنويه إلى أنه من غير المرجح دخول حمدوك في خلاف مع الجيش، فليس في وسعه أن يفعل أصلاً بموجب اتفاق يمنح المجلس العسكري حق احتكار وتسمية وزيري الدفاع والداخلية، وبالتالي فمن الطبيعي أن يقتصر سجال رئيس الحكومة المكلف على قوى الحرية والتغيير والأعضاء المدنيين في المجلس السيادي، وهذا ما يحصل الآن فعلياً. كذلك يجدر التشديد على أن قوى المعارضة هي التي اختارت حمدوك لتشكيل الحكومة الانتقالية، مستندة في هذا إلى خبرته الدولية في شؤون الاقتصاد والحكم والانتقال الديمقراطي، وأنه ترعرع في صفوف الحزب الشيوعي السوداني ولم ينتم إلى أي من أجهزة نظام عمر حسن البشير، وسبق له أن اعتذر عن شغل حقيبة المالية في حكومة معتز موسى.
من المستحسن في ضوء هذه المعطيات أن تواصل المعارضة حوارات بناءة ومثمرة مع حمدوك حول المعايير التي يضعها في قبول توزير زيد أو عمرو من الأسماء التي قدمتها له قوى الحرية والتغيير، خاصة تلك التي تتصل بمقتضيات الخبرة والكفاءة وحسن التعامل مع شؤون الحكم وإدارة الاقتصاد ومختلف مؤسسات الدولة، وكذلك الابتعاد ما أمكن عن ترشيح الوزراء على أساس من الانتماء الحزبي المحض، والتركيز في المقابل على التمثيل الجهوي، وتفعيل الكفاءات النسائية. وفي المقابل، يحق للمعارضة أن تشدد على ضرورة استقدام الكوادر الثورية التي تتحلى أيضاً بكفاءات إدارية، وفي الطليعة أولئك الذين قادوا الحراك الشعبي في أحلك الظروف وخاضوا جولات تفاوض شاقة مع العسكر.
الآمال المعقودة على الحكومة الوليدة ليست كبيرة ومشروعة وملحة فقط، ولكنها أيضاً تجسد خشية الجماهير الشعبية من مخاطر وأد الانتفاضة على يد قوى داخلية وخارجية مضادة، كما تعكس الإصرار على الانتقال بالتجربة الثورية إلى برّ الأمان، انتصاراً لدماء الشهداء وإحقاقاً للعدل والكرامة.
القدس العربي