تباهى مؤسس حماس، الشيخ أحمد ياسين، مع اندلاع الانتفاضة الثانية، بأن رغبة رجال المنظمة في ملاقاة حتفهم في عملية انتحارية أكبر من رغبة الإسرائيليين في الحياة. ياسين لم يقصد نفسه، كما هو معروف، وهو إن كان بعث برجاله إلى الموت، إلا أنه كان متمسكاً بالحياة، واعتقد بأن عمره المتقدم ومكانته سيمنحانه الحصانة، وفي آذار 2004 صفاه سلاح الجو الإسرائيلي.
لو بقي ياسين على قياد الحياة لاكتشف أن في غزة اليوم من ينافس منظمته في البحث عن الموت. ففي الأسبوع الماضي قتل ثلاثة من رجال حماس وأصيب آخرون في سلسلة عمليات انتحارية نفذها أعضاء حركات سلفية جهادية متطرفة يشكل “داعش” لهم مصدر إلهام. وحسب التقديرات، لهذه الحركات أكثر من 20 ألف عضو أو مؤيد في أرجاء القطاع، وحماس تخوض ضدها حرب إبادة. فقد حبست بل وصفت الكثير من أعضاء هذه الحركات، وخربت المساجد التي يصلون فيها، ولم تنجح بعد في اقتلاعها من الجذور. بالمناسبة، كل هذا لا يمنع حماس من مواصلة التعاون مع فرع “داعش” الذي يعمل في شبه جزيرة سيناء ومساعدته في صراعه ضد السلطات المصرية مقابل المساعدة في تهريب السلاح إلى القطاع.
ولكن ليس في غزة وشبه جزيرة سيناء فحسب يواصل “داعش” عمله. ويتبين أن الأنباء عن تصفيته لم تصل إلى القارة الإفريقية أيضاً؛ ففي الأشهر الأخيرة أعلنت حركات إرهابية إسلامية في مالي وبوركينافاسو عن ولائها لـ “داعش”، وينبغي أن يضاف إليها تلك الحركات العاملة في نيجيريا (منظمة بوكوحرام الإجرامية)، بل وفي تونس وليبيا والصومال. كما وسع التنظيم نشاطه إلى باكستان، والهند وأفغانستان، حيث نفذ واحد من رجاله مؤخراً عملية إرهابية في أثناء حفل عرس، فقتل 63 من المحتفلين وأصاب المئات.
ولكن كل هذا يتقزم في ضوء الحيوية التي يبديها “داعش” في الصحراء السورية والعراقية، مكان ولادته، حيث أقام ويقيم على مدى السنين دولة بقيادته. في آذار الماضي، تباهت مصادر أمريكية بأنها تمكنت من احتلال المعقل البري الأخير الذي كان بحوزة التنظيم على الأراضي السورية، وذلك بعد أن علم قبل سنة من ذلك بأن التنظيم فقد كل المناطق التي سيطر فيها بالعراق. بالمناسبة، احتل مكان داعش في الغالب الإيرانيون أو حلفاؤهم المحليون، الذين ثبتوا في هذه المناطق مسار مواصلات برية من طهران، عبر بغداد مروراً بدمشق وانتهاء ببيروت.
بخلاف الإعلانات عن القضاء عليه، فإن التنظيم يواصل العمل في أراضي سوريا والعراق، وفي الأشهر الأخيرة علم أن عشرات العمليات الإرهابية نفذت ضد أهداف للحكم والجيش في هاتين الدولتين، قتل في أثنائها العشرات وأصيب المئات. وهكذا يكون التنظيم عاد عملياً إلى نقطة الانطلاق التي بدأ فيها طريقه قبل بضع سنوات، كتنظيم إرهابي سري يتمتع بتأييد السكان المحليين الذين يعمل في أوساطهم.
ينبغي الإشارة إلى أن زعيم القاعدة، أيمن الظواهري، حذر في حينه قادة “داعش” من أن يقفزوا أعلى مما ينبغي ويحاولوا تأسيس وإقامة دولة، إذ إن الأمر أكبر بكثير من قدراتهم. أما في “داعش” فرفضوا الاستماع، وفكوا ارتباطهم عن القاعدة، ولكن في نهاية المطاف عاد التنظيم للعمل سراً.
إن أسباب ظهور “داعش” ونجاحه تكمن في المعاملة القمعية والتمييزية للحكومة الشيعية في بغداد تجاه السكان السنة في العراق، مثلما هو أيضاً الإحباط والغضب اللذين شعر بهما أبناء الطائفة السنية في سوريا تجاه النظام العلوي لبشار الأسد. كل هذا لم يتغير، ومن هنا ينبغي الافتراض بأن التنظيم سيواصل التمتع بتأييد واسع سيسمح له بمواصلة الوجود كتنظيم إرهابي ناجع وصعب على الإخضاع.
رئيس الأركان غادي أشكنازي حذر من أن “داعش” ليس تنظيماً فحسب، بل فكرة يصعب تصفيتها. والحق كان معه: داعش حي، يعض ويركل، وق يتطلع في المستقبل إلى استئناف أعماله الإرهابية في أرجاء العالم، وفي إسرائيل أيضاً.
القدس العربي