الحكومات العراقية تخذل أسر المفقودين في الحروب منذ عقود

الحكومات العراقية تخذل أسر المفقودين في الحروب منذ عقود

بغداد – يغيب ملف المفقودين من الجنود العراقيين إبان سنوات الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت من عام 1980 إلى 1988، حيث فقد مئات الآلاف من الجنود العراقيين في سنوات القتال ولم يكشف عن مصيرهم بعد.

وتكتمت السلطات الإيرانية على إعدام الآلاف من الأسرى العراقيين في سجونها بعد رفضهم الانضمام إلى قوات أسستها لمعارضة نظام الرئيس صدام حسين آنذاك، فيما لم تبذل الحكومات العراقية منذ عام 2003 أي جهد يذكر للإنصات لأسر عراقية فقدت أبناءها في إيران.

وكان وزير الخارجية العراقي السابق إبراهيم الجعفري مدافعا عن الجانب الإيراني أكثر منه عراقيا، عندما سوغ فقدان مصير الآلاف من العراقيين الأسرى لدى إيران بأن طهران أكدت عدم وجود أي مفقود عراقي لديها.

ولا تنتهي مأساة الأسر العراقية التي فقدت أبناءها في سنوات الحرب مع إيران، هناك أيضا الآلاف من العراقيين فقدوا أبناءهم أثناء حرب الخليج الثانية مع الكويت والاحتجاجات التي تلت الحرب.

وفقد الآلاف من الجنود العراقيين بعد هزيمة الجيش العراقي وانسحابه من الكويت عام 1991، ولم يعرف مصيرهم إلى اليوم، ولا تعترف الحكومات العراقية المتتالية بعد عام 2003 بأي جندي عراقي فقد أثناء حرب الكويت.

مأساة أسر هؤلاء المفقودين، تترجمها سامية خسرو التي تفرد على منضدة خشبية تغطي جدارا كاملا في مدخل غرفة الجلوس 26 صورة لأقربائها الذين خرجوا ولم يعودوا منذ أكثر من 35 عاما، وتوقد شموع الانتظار على غرار الآلاف من العائلات التي لا تزال تنشد مصير مفقوديها.

وتقول خسرو وهي كردية فيلية (شيعة) تبلغ من العمر 72 عاما، “إلى غاية اليوم ننتظر. إلى أن نستلم عظامهم، في ذلك اليوم يمكن أن نقول إنهم ماتوا”.

وتشير تقديرات حكومية إلى أن أعداد المفقودين بين العامين 1980 و1990، بلغت نحو 1.3 مليون شخص. فمنهم من أعدم، ومنهم من فارق الحياة في السجون، والآخر غيّب في ليال حالكة. فضلا عن الأسرة الضيّقة لسامية خسرو، التي كانت نائبة في البرلمان في العام 2005، فإن لديها أكثر من مئة مفقود في العائلة الكبيرة.

وتعتبر خسرو أن الذنب الوحيد لهؤلاء أنهم كانوا ينتمون إلى دين وقومية معينة خلال تلك الحقب، قائلة “هل أنا قلت لرب العالمين أن يخلقني كردية أو أن يكون مسقط رأسي العراق أو شيعية؟ هذا ليس ذنبي، هذا إرث، فهل أعاقب عليه؟”.

يذكر أنه بالإضافة إلى عمليات التغييب التي حصلت في بداية الثمانينات، أعدم صدام حسين، الذي أطيح بنظامه في العام 2003 بعيد غزو أميركي للبلاد، قبل أن يمثل أمام المحكمة بتهمة “إبادة” ما يقارب 180 ألف كردي في إطار عمليات “الأنفال” التي شنها بين عامي 1987 و1988.

وتعد خسارة السيدة خسرو مضاعفة، فزوجها سعدون أيضا ضحية الفقد. وهو الذي خسر أخا لم يسمع عنه شيئا مذ كان شابا، وآخر أجبر على ترك البلاد قبل 45 عاما خوفا من المجهول.

اليوم، تعرب خسرو عن خوفها من أن تموت القضية مع رحيل جيلها. وتقول “نحن سنرحل. لكن هل ستكون حرقة من يأتون بعدنا كحرقتنا؟ نحن عايشناهم وربيناهم على أيدينا”.

هذا الخوف يعززه التباطؤ الحكومي في تناول هذا الملف الذي يمكن التطرق إليه بشكل كبير اليوم في العراق، مع الهدوء النسبي الذي تعيشه البلاد بعد عقود من الحروب والعنف.

ولا تزال القوات العراقية تعثر بين فينة وأخرى على مقابر جماعية في محافظات عراقية مختلفة كانت تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية الذي احتل في العام 2014 ما يقارب ثلث مساحة العراق. وتحوي تلك المقابر على ضحايا للجهاديين، وآخرين قتلوا خلال الحرب الإيرانية العراقية، أو خلال غزو العراق للكويت.

وسلمت السلطات العراقية إلى الكويت مؤخرا رفات نحو 50 شخصا، لإجراء فحوص الحمض النووي للتأكد من أنهم كويتيون.

لكن رغم ذلك، لا يبدو أن السلطات تسعى لبذل جهود كافية في هذا الإطار، إذ تشير خسرو إلى أنه من خلال عملها على ملفات أفراد عائلتها، اكتشفت غياب التمويل “حتى لمدير المقابر الجماعية”.

وفي هذا الصدد، تشير اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أن العراق واحد من البلدان التي تضمّ أكبر عددٍ من المفقودين، فكلّ أسرة في العراق عمليا إمّا لديها مفقود وإما تعرف أسرا فُقد ذووها.

وتقول المتحدثة باسم المنظمة الدولية في العراق سلمى عودة إن “العدد يقدر بالمئات من الآلاف. رسالتنا للحكومة هي أن العائلات تستحق المزيد من الجهود لإغلاق هذا الملف ربما يوما ما”.

ولا تزال روناك محمد (63 عاما)، تنتظر حتى اليوم زوجها الذي خرج للمرة الأخيرة في العام 1982، ولم يعد. داخل منزلها في حي الأسرى والمفقودين، الذي يضم عائلات كثيرة فقدت ذويها، في محافظة كركوك شمال بغداد، تفتح محمد ألبوم صور بالأبيض والأسود، وتعود بذاكرتها إلى يوم زفافها.

وتقول إن زوجها طلب كاحتياط عندما كان يعمل في شركة نفط الشمال، “خرج، ولم أستعد منه إلا ساعة يده وخاتم زواجنا”.

ولم تسمع روناك أي خبر عن والد أطفالها الثلاثة منذ ذلك اليوم، وأحدا لم يؤكد مقتله.

في الحي نفسه، أسكتت زينب جاسم ماكينة خياطتها إلى الأبد، يوم خسرت شريكتها، والدتها التي اختطفها تنظيم الدولة الإسلامية في العام 2014.

وكانت بشرى تنقل ثيابا خاطتها إلى زبائنها في الحويجة، ومن المفترض أن تعود حاملة خضارا وفاكهة بما جنته. لكن القدر كان مغايرا.

أنزلها الجهاديون من الباص الذي كانت تستقله مع آخرين، واقتادوها إلى جهة مجهول، حيث تقول زينب “اتصلوا بنا، وسألونا إذا ما كانت أمي تنقل معلومات” عن التنظيم، ويومها عرفت العائلة أن الوالدة خطفت.

العرب