منذ أن تم التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن البرنامج النووي الايراني قبل بضعة أشهر، كان هناك عدد قليل من الأخطاء الطفيفة من جانب طهران كما أن عملية التراجع عن العقوبات لم تكن على نحو سلس تماما. ووراء هذه السقطات، واصلت وكالة الطاقة الذرية التحقق من أن إيران تمتثل لالتزاماتها. وقد مكن هذا واشنطن من الانخراط المباشر مع طهران بشأن اثنين من الأولويات الاستراتيجية المشتركة بينهما، الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في كل من العراق وسوريا، واستقرار حكومة الوحدة الوطنية في أفغانستان.
كما وجدت الولايات المتحدة وإيران قضية مشتركة أخرى متمثلة في الحفاظ على وحدة العراق. ولم تنضم إيران إلى التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، ولكن المناقشات بين المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين بشأن «الدولة الإسلامية»، والتي بدأت على هامش محادثات مجموعة الخمس زائد واحد النووية في يونيو / حزيران 2014 قد تحركت للأمام، وركزت المحادثات الثنائية مباشرة على هزيمة «الدولة الإسلامية». وكشفت كل من واشنطن وطهران عن بعض التنسيق المحدود للجهود والذي حدث بالفعل. ويعتقد البعض أن هذا قد يتم تطويره وامتداده إلى تبادل المعلومات الاستخباراتية والتعاون المباشر في العمليات العسكرية.
واعترف مسؤولون أمريكيون أن طهران استخدمت نفوذها لإجبار «نوري المالكي» على التنحي في سبتمبر/أيلول 2014، وبعد ذلك أقنعت حكومة «حيدر العبادي» لتبادل المزيد من السلطة مع السنة والأقليات الأخرى. والنتيجة هي تحسن الحالة السياسية ولكنها لا تزال هشة في الوقت الذي لا يزال يشعر فيه السنة بأنهم غير ممثلين في الحكومة العراقية، كما أن الجيش لا يزال يهيمن عليه الشيعة.
بيئة ما بعد الاتفاق النووي جعلت من الممكن اختبار استعداد ايران للعب دور بنّاء في تعزيز حل سياسي في سوريا. ومع التأكيد على أن مؤتمر جنيف آخر خاص بسوريا من دون إيران لن يكون له معنى، فإن واشنطن تدعم مشاركة إيران في اجتماع جنيف الثالث الذي ستعقده الأمم المتحدة قريبا. وسوف تشارك المملكة العربية السعودية وروسيا وتركيا وممثلين عن المعارضة السورية المعتدلة بالإضافة إلى حكومة «الأسد» أيضا.
وفي الفترة التي سبقت الاجتماع، وضع كل من المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين تركيزهم على مساعدة فورية لتخفيف الأزمة الإنسانية في سوريا، وكان هناك تعهد من جانب طهران بتوسيع التعاون، ومن المتوقع وصول المساعدات الإنسانية. وما هو أقل وضوحا هو مدى استعداد طهران للذهاب إلى استخدام نفوذها من أجل التوصل إلى تسوية سياسية من شأنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلى رحيل «بشار الأسد». ومنذ أن سعت إيران إلى المقعد منذ فترة طويلة على طاولة المفاوضات، فقد حان الوقت لإظهار أوراقها.
تجاوز إيران للمملكة العربية السعودية جعل التوقعات بخصوص جنيف 3 أكثر وعدا. وعقب اجتماع وزير الخارجية الإيراني «جواد ظريف» مع نظيره السعودي الأمير الراحل «سعود الفيصل» في نيويورك في سبتمبر / أيلول 2014، سافر ظريف إلى جدة للاجتماع مع العاهل السعودي الملك «عبد الله بن عبدالعزيز». وأشارت تقارير أن الجهود المشتركة لدعم المعارضة السنية المعتدلة للدولة الإسلامية، قد قللت من حجم الدمار الذي أوجدته «الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق.
الاتفاق النووي، جنبا إلى جنب مع وجود قوات أمريكية في أفغانستان بحجم أصغر، جعلت طهران تستجيب لطلبات الولايات المتحدة بإجراء محادثات مباشرة بشأن أفغانستان. وحتى الآن رأينا برنامج شعبي قوي من الدعم من قبل المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين لحكومة وحدة في أفغانستان. وقد تم إنشاء علاقة عمل بين السفيرين الأمريكي والإيراني في كابول. وقد رحبت إدارة «أوباما» بإدراج إيران في ائتلاف بلدان يدعم مرحلة انتقالية في أفغانستان، ما يُذكّر بالأيام التي عملت فيها كلتا الدولتين معا للمساعدة في إنشاء حكومة انتقالية في أفغانستان انبثقت عن مؤتمر بون عام 2001.
ومع تخفيف العقوبات المفروضة على إيران بات المسؤولون الإيرانيون والأمريكيون حاليا قادرين على مناقشة مشاركة طهران المحتملة في «طريق الحرير الجديد»، وهو الركيزة الأساسية لاستراتيجية واشنطن دعم التنمية في أفغانستان من خلال وصلات التجارة والعبور التي تربط بين وسط وجنوب القارة الأسيوية. ممر التطوير التجاري الهندي الإيراني المشترك من ميناء شاباهار في سيستان الإيرانية ومقاطعة بلوشستان إلى الطريق السريع الرئيسي في أفغانستان سيعطي أفغانستان، الدولة الحبيسة غير الساحلية، فرصة الحد من اعتمادها على باكستان للعبور، ما يوفر لكليهما والولايات المتحدة خيارات دبلوماسية في المنطقة المضطربة التي بحاجة لحلول غير تقليدية.
وتتحرك الولايات المتحدة بعيدا عن الضغط على باكستان للتخلي عن مشروعها خط أنابيب مع إيران والذي يعاني وضعا حرجا منذ فترة طويلة. وفي هذا الجو الجديد؛ بدأت واشنطن عرض خط الأنابيب الذي سينقل الغاز الطبيعي من إيران إلى باكستان، باعتبارها وسيلة ناجعة لمعالجة أزمة الطاقة في باكستان.
ومع ذلك تبقى نقطة خلاف خطيرة. هناك خلافات مستمرة بين واشنطن وطهران بشأن التعيينات داخل الحكومة الأفغانية وهيكل قوات الأمن. وهناك أيضا استمرار للخلافات حول عملية المصالحة وتجاوز «أشرف غاني» لحركة طالبان، التي يبدو أن واشنطن تدعمها. وترى إيران حركة طالبان على أنها مرتبطة بـ«الدولة الإسلامية»، والتي بدورها، تقوم بتأجيج الشكوك الإيرانية حول دول إقليمية مثل المملكة العربية السعودية وقطر.
كما تجري المناقشات بين الولايات المتحدة وإيران للمساعدة في دعم العلاقات الثنائية الوليدة. وتتركز المباحثات الجارية على إعادة الرحلات الجوية المباشرة وفتح قسم لرعاية المصالح الأمريكية في طهران، والتي من شأنها أن تجلب الخدمات القنصلية الأمريكية إلى إيران للمرة الأولى منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران. وتتطاير شائعات أن الرئيس «أوباما» سيعلن قريبا عن تعيين مبعوث خاص للولايات المتحدة في إيران. ورحبت حكومات كلتا الدولتين بما طرأ من تحسن في العلاقات المتبادلة بين الدولتين، خاصة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والدين والرياضة والثقافة.
ولا تمثل أحداث الأشهر الأخيرة أي شيء أقل من التغيير التاريخي. وتم طمس محظورات التقارب بين الولايات المتحدة وإيران، وبات من الصعب أن نتصور العودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل الاتفاق النووي. لكن هناك خلافات عميقة لا تزال قائمة. ولا زال سجل إيران السيئ لحقوق الإنسان قائما. وتستمر طهران في دعم جماعات إرهابية، بما في ذلك حركة حماس في غزة وحزب الله في لبنان، وتمكين وكلاء يعملون على استفزاز وتهديد إسرائيل.
أحد أصعب التحديات في مرحلة ما بعد الاتفاق لإدارة «أوباما» هي إدارة اهتمامات هموم وتطلعات إسرائيل، وكذلك أعضاء الكونجرس، الذين ما زالوا متشككين بشدة أو يعارضون بصراحة ممارسة أي الأعمال تجارية مع إيران. وقد زاد الاتفاق النووي أيضا من المخاوف بين دول الخليج، الذين يعتقدون أنهم الآن أكثر عرضة للضغط الإيراني.
ويستمر الرئيس الايراني «حسن روحاني» وفريقه في مواجهة تحديات من المتشددين الذين يتوقون للعودة إلى عزلة إيران. ومع انتصار «روحاني» في القضية النووية، فقد اصبحت السياسات في إيران أكثر وحشية في الوقت الذي يتكهن فيه البعض أن المعتدلين سوف يتغلبون على منافسيهم من المحافظين في الانتخابات البرلمانية المقبلة وانتخاب مجلس الخبراء؛ الهيئة القوية المسؤولة عن اختيار المرشد الأعلى الإيراني.
ما كنا نشهده خلال هذه الأشهر الماضية هو انخراط تدريجي محسوب، وليس تقاربا بالمعنى الكلاسيكي المدرج في الكتب المقررة. لحظة «ذهاب نيكسون الدراماتيكية إلى الصين» لا تبدو أنها تتبلور، كما أنه لا يتضح أن هناك «صفقة كبرى» بالمعنى الذي تحمله الكلمة. وبدلا من ذلك، لدينا تعاون حذر بخصوص عدد قليل من الأهداف الاستراتيجية المشتركة، وهو النهج الذي يبدو أنه يلائم منطقة الراحة للمرشد الأعلى «علي خامنئي». وترى واشنطن على نحو متزايد فائدة العمل مع إيران، ولكن لا تزال بطرق محدودة. ويواجه كاهما حالة من الغموض في التعامل مع أي حكومة لن تكون حليفا في أي وقت قريب، ولكن ليست هي العدو اللدود الذي كان في السابق.
وبالعودة إلى الوقت الحاضر: فإن السيناريوهات المذكورة أعلاه جميعها تشغل العقل بطبيعة الحال. لكنها أيضا ضمن نطاق إمكانية أن القوى الكبرى وايران تنجح في إبرام اتفاق نووي (أعلن عنه بالفعل صباح اليوم). منع إيران من امتلاك السلاح النووي بشكل مؤكد وتجنب مواجهة عسكرية بسبب برنامجها النووي هي أهداف ذات أهمية حيوية بالغة. بالمثل، فإن فتح قناة واسعة النطاق للحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإيران حول القضايا حيث لديهما مصالح مشتركة بمثابة الأمر المقنع أيضا أنه يعتبر إنجازا هائلا.
ترجمة: موقع الخليج الجديد