سعر صرف الدولار الأمريكي ظهر أمس كان يساوي 685 شراء و690 مبيع مقابل الليرة السورية، وهذا يعني أن العملة الوطنية في سوريا تواصل انهيارها بسرعة جنونية غير مسبوقة في تاريخ البلد، مترافقة منطقياً مع قفزات هائلة في أسعار الذهب (28,500 ليرة للغرام 21 قيراطا) وذلك رغم جمود الحركة. ومن الطبيعي أن تقع العواقب الوخيمة لهذا الانهيار على عاتق المواطن السوري، بسبب انفلات أسعار المواد الرئيسية وارتفاعها بنفس معدلات الجنون، الأمر الذي لن يقتصر على الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل وحدها، بل سيشمل الطبقة الوسطى أيضاً وغالبية الفئات الاجتماعية، ما عدا قلة قليلة من الأثرياء والمتكسبين من أهل النظام ومواليهم.
ومنذ بدء العمل بها في سنة 1948 لم تشهد الليرة السورية هذا المستوى من انحدار القدرة الشرائية، على غرار أسعار الخضار مثلاً، إذ يبلغ سعر كيلو غرام الفاصولياء الخضراء 1000 والباذنجان 600 والبندورة 500 والبطاطا 400 ليرة سورية، كما تضخمت أسعار الكهرباء ومشتقات الوقود والتدفئة بمعدل 18 ضعفاً، مع العلم أن معدل الراتب الشهري لموظفي الدولة ومعظم أبناء الطبقة الوسطى يبلغ 40,000 ليرة، أي ما يعادل 60 دولاراً وفق سعر القطع الأجنبي الراهن. وفي المقابل لم يرفع النظام الأجور منذ سنة 2014، وضخ كميات هائلة من العملة الورقية بعد استحداث ورقة من فئة 500 سنة 2013 وأخرى من فئة 1000 سنة 2015.
هنالك سبب أول جوهري وراء هذا الانهيار هو بنية الاقتصاد في ظل «الحركة التصحيحية» التي قادها حافظ الأسد في سنة 1970 وأورثها لابنه بشار بعد وفاته في سنة 1990، من حيث اعتبار سوريا بأسرها مزرعة مفتوحة للنظام وأعوانه، مما أتاح هيمنة الفساد بأشكاله المختلفة التي تشمل الرشوة والاختلاس والنهب والهدر وإساءة استخدام السلطة. والمثال الأبرز والمعروف هو رجل الأعمال رامي مخلوف ابن خال رئيس النظام الذي قدّرت صحيفة «فايننشيال تايمز» أن ثروته تعادل 60٪ من الناتج القومي الإجمالي السوري، وهذا ما يعترض عليه اقتصاديون يساجلون بأن استثمارات مخلوف أكثر بكثير. وليست مصادفة أن تُعزى بعض عوامل الانهيار الأخير لليرة السورية إلى ما يتردد من إشاعات حول بوادر خلاف بين الأسد وابن خاله بعد امتناع الأخير عن تغطية بعض التزامات النظام المالية.
صحيح أن العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ضد بعض شخصيات النظام ومؤسساته تركت أثراً واضحاً، ومثله أيضاً تأثير حال انخفاض السيولة الأجنبية في إيران التي تعهدت رفد النظام بمليارات الدولارات، إلا أن سياسات الفساد والنهب المعمم تظل السبب الجوهري وراء تردي الاقتصاد السوري والانهيارات المتعاقبة في قيمة الليرة. القطاع الزراعي يسير من خراب إلى دمار بعد أن كان يمثل 19٪ من الناتج القومي الإجمالي ويشغّل 26٪ من اليد العاملة الفعلية، وقطاع الطاقة كان ينتج 386,000 برميل يومياً في سنة 2010 فبات لا يتجاوز 9,000 برميل اليوم، وقطاع الفوسفات صار رهينة الاستنزاف والتنافس بين الشركات الإيرانية والروسية، وقطاع الثروة المعدنية هبط من صادرات سنوية بقيمة 4,7 مليار دولار في 2011 إلى الدرجة صفر حالياً.
وبين ضغط الدولار وسعر كيلوغرام البطاطا، كيف لليرة السورية أن تصمد أو تسد الرمق؟
القدس العربي