ديكتاتورية الديمقراطية في الأزمة السياسية البريطانية

ديكتاتورية الديمقراطية في الأزمة السياسية البريطانية

منذ عام 2016 وحتى اليوم، تعصف بالحالة السياسية البريطانية أزمة حادة، لم يسبق لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية. السبب الظاهري للأزمة موضوع الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، والصراع الدائر بين الرافضين لهذه الفكرة والداعمين لها، لكن الغاطس من الأزمة مختلف جذريا عما يظهر إلى العلن.
على مدى عامي 2014 – 2015 ظهر شرخ كبير في حزب المحافظين، أكبر الأحزاب البريطانية الذي يتولى السلطة اليوم، بين تيار يؤيد الخروج من الاتحاد الأوروبي ويصفه بأنه يُصادر السيادة البريطانية، وتيار آخر يؤمن بضرورة البقاء فيه، على أعتبار أن بريطانيا أحد أعمدته الاقتصادية والسياسية والأمنية. ولغرض القضاء على هذه البلبلة التي كانت دارجة في البنية الداخلية للحزب، وعد زعيمه آنذاك ديفيد كاميرون إن عادوا إلى السلطة في انتخابات عام 2015، فإنه سيدعو إلى إجراء استفتاء في البلاد على هذا الموضوع، لمعرفة رأي الشعب البريطاني في أي اتجاه يميل. ظنا منه أن نتائج الاستفتاء قد تُعيد اللحمة إلى صفوف الحزب، وتوقف نزيف اليمين المتطرف من مهاجمة القيادة، والتحريض عليها، من خلال تشجيع الانشقاق إلى حزب المستقلين (اليوكيب)، أي أن أساس المشكلة الحالية والاستعصاء المستمر حتى اللحظة لم يكن بدوافع وطنية، بل بدوافع حزبية ضيقة ومصالح شخصية. كما كانت وراءه أسباب سيكولوجية أيضا تتعلق بعقلية الامبراطورية البريطانية، التي ماتزال موجودة في أذهان الكثيرين من الذين يعتقدون أن خروجهم يعيد لهم الأمجاد القديمة، حينما كانت بريطانيا لا تغيب عن مستعمراتها الشمس. وأنه يمكن الاستغناء عن الاتحاد الاوروبي بدول الكومنولث وأمريكا ودول أخرى. في حين غاب النقاش الموضوعي للتبعات الحقيقية للخسائر التي ستُمنى بها المملكة المتحدة في حقل الاقتصاد خاصة.
وفي ظل موجة السُعار اليميني المتطرف، الذي بات يتسلّق إلى الصفوف الاولى للواجهة السياسية الاوروبية، وفي خضم الشعبوية التي أصبحت شعار المرحلة، وكذلك بروز مُلهمين فكريين لهذا التوجه في قمة هرم السلطة السياسية للقوة الاعظم في العالم، الولايات المتحدة الامريكية ممثلة برئيسها ترامب. في ظل كل هذا، باع المعارضون لمؤسسة الاتحاد الاوروبي في المملكة المتحدة أوهاما كثيرة لشعبهم، ونجحوا في ذلك بأساليب عديدة، فقد استخدموا السياسة النقدية والمهاجرين في إقناع الناخب البريطاني. كما كذبوا في القول بأن المملكة المتحدة تدفع مبالغ طائلة أسبوعيا لميزانية الاتحاد الاوروبي، بدون أن يذكروا الفوائد التي كانوا يجنونها من وجودهم فيه. ولم يشيروا إطلاقا إلى مساهمات الاتحاد في إنشاء البُنى التحتية لكثير من المدن البريطانية، وتمويل البحوث العلمية في مراكز البحوث والجامعات البريطانية، حتى أن زعيم حزب المحافظين آنذاك شخصيا دخل في هذه اللعبة أيضا من جانب شخصي بطموحات سياسية مستقبلية، وغامر بنفسه وبلاده وبالاتحاد الاوروبي، من أجل تثبيت زعامته الحزبية، والغريب أنه عندما فقد مستقبله السياسي، وترك الحزب بسبب هذا التفكير الأحادي الشخصي، أكملت من جاءت من بعده زعيمة للحزب، الطريق نفسه الذي سلكه، حيث حرصت زعيمة الحزب ورئيسة الوزراء السابقة تيرزا ماي، على استرضاء الجناح اليميني المتطرف في حزبها، بوعود لم تستطع تحقيقها، في الوقت نفسه كانت تحاور فيه وتسترضي الجناح الآخر الذي يطالب بالبقاء، حتى ذهبت هي الأخرى خارج موقع المسؤولية بسبب هذا الملف أيضا.
كل ما جرى منذ الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الاوروبي (البريكست) عام 2016 وحتى اليوم، كانت كلها بوسائل ديمقراطية، وفي بلد عُرف أنه من أعرق الديمقراطيات في العالم، لكن الحقيقة أن التوسل بالوسائل الديمقراطية لم يكن بنوايا وطنية خالصة، ولم يكن في مصلحة الشعب البريطاني في أغلب الأحيان. بل كانت تقف خلفه طموحات سياسية شخصية. وقد استخدم موضوع (البريكست) كي يكون ورقة سياسية داخل مجلس العموم البريطاني، ووسيلة استغلها الجميع طمعا بالوصول إلى رئاسة الحكومة، حتى تحول البرلمان إلى مسرح استعراضي كبير، تعرض على خشبته لأول مرة مواقف بأساليب ليست معروفة في الثقافة السياسية البريطانية من قبل، ولا تمت بصلة لروح ومعاني الديمقراطية.

ما فائدة الديمقراطية والانتخابات إذا كان بإمكان البعض أن يلوي عنقها كي تتلاءم مع ما يريد ولا يريد؟

كما تحول ملف الخروج من الاتحاد الأوروبي إلى سباق محموم بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، على مسألة من يسيطر على من، ومن يلوي عنق من، ومن يخطف القرار أولا من الاخر. رافقها انعدام الثقة بين السلطتين، وبين الحكومة والمعارضة، وبين أعضاء الحزب الواحد، ما دفع بحالة تمرد حزبي كبير، ظهرت إلى الواجهة، واستقالات جماعية شملت حتى شقيق رئيس الوزراء، فباتت مسألة في غاية الخطورة بعد أن تقلصت الحدود الدقيقة التي تفصل بين السلطتين وتلاعبت الرغبات الشخصية بمفهوم الديمقراطية كذلك.
لقد رفعت الديمقراطية البريطانية سوط الديكتاتورية بيدها، وحاولت حشر المسائل المختلف عليها في قوالب جاهزة لا تقبل المرونة، كما حصل خطأ كبير في طُرح مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي على الاستفتاء الشعبي. فنظام الحكم في بريطانيا نظام ديمقراطي برلماني، ينبغي فيه عدم اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي على هذا الملف، أي بآلية الديمقراطية المباشرة. فالقول الفصل في النظام البرلماني للبرلمان وليس للشعب. وهنا حصل التصادم ما بين خيار الشارع البريطاني وخيار البرلمان، الذي أثبتت الأيام أنه مع خيار البقاء وليس الخروج. وما تعيشه بريطانيا اليوم هو نتاج ذلك الخطأ الديمقراطي.
لقد انتقلت أساليب ووسائل وسجالات وتخرصات اليمين المتطرف إلى واجهة المشهد السياسي البريطاني. كما سرت النزعة اليمنية المتطرفة إلى بنية بعض الأحزاب السياسية، فأخذت الموشرات تدل على وجود تحولات إلى أقصى اليمين، ليس بسبب تحولات فكرية أيديولوجية حدثت بصورة تدريجية، بل بسبب مصالح آنية يظن البعض بإمكانية الحصول عليها من خلال تبني هذه الأفكار. وهذا يعني أن هنالك حالة من الإصرار على المضي في طريق، لا يقيم أي اعتبار لتداعيات الخروج غير المنظم من الاتحاد الاوروبي على الاتحاد البريطاني. كما لا تعنيه الخسائر الاقتصادية اليومية التي تُمنى بها المملكة، والتي يقدرها الخبراء بحوالي مليار جنيه إسترليني يوميا، ولا الثلاثة مليارات جنيه يوميا التي تمثل حجم التجارة بين بريطانيا والاتحاد الاوروبي.
إن الساعات والايام المقبلة هي مرحلة حساسة في تاريخ المملكة المتحدة، في حين يبقى السؤال الكبير يبحث عن جواب شاف، هو ما فائدة الديمقراطية والانتخابات إذا كان بإمكان البعض أن يلوي عنقها كي تتلائم مع ما يريد ولا يريد؟

القدس العربي