لندن – باتت إيران وتركيا تغطيان على تراجعهما الاستراتيجي في المنطقة عبر نوع جديد من الحرب يعتمد على الطائرات المسيرة التي لا تزال طرق التصدي لها محدودة ليس فقط لدى الدول المستهدفة بالهجمات مثل السعودية وليبيا ولكن على مستوى العالم، فضلا عن تكلفتها الرخيصة.
يأتي هذا في ضوء تراجع مدّ الإخوان الذين راهنت عليهم تركيا، وفي وقت باتت فيه إيران مكشوفة بسبب العقوبات رغم أنها في وضع استراتيجي قوي عبر الميليشيات الحليفة لها في اليمن ولبنان والعراق وسوريا.
وبشكل متزامن، ازداد اعتماد إيران وتركيا على الطائرات المسيرة في استهداف ممنهج وعبر وكلائهما المحليين ضد مواقع في السعودية وليبيا هدفه الاستفادة من المزايا التقنية لهذه الطائرات لتعويض الخسائر الأيديولوجية في السنوات الأخيرة.
وأدى هجوم بواسطة طائرات مسيّرة تبنّاه المتمردون الحوثيون في اليمن، السبت، إلى إشعال حرائق في منشأتين نفطيتين تابعتين لشركة “أرامكو” السعودية العملاقة، بمحافظة بقيق وهجرة خريص شرق السعودية، في ثالث هجوم من هذا النوع خلال خمسة أشهر على منشآت تابعة للشركة.
ويقع موقع بقيق على بعد ستين كيلومترا جنوب غرب الظهران، المقرّ الرئيسي للشركة، ويضمّ أكبر معمل تكرير نفط لأرامكو وفق موقع الشركة الإلكتروني.أما موقع خريص، فيقع على بعد 250 كيلومترا من الظهران، وهو أحد الحقول النفطية الرئيسية للشركة الحكومية.
ولجأت إيران إلى الطائرات المسيرة التي يمتلكها وكلاؤها من الميليشيات في اليمن ولبنان بصفة خاصة لقدرتها على الاستهداف الدقيق، ومن ثمة إرسال رسائل مختلفة إلى الجهات المعنية، والإيحاء بأن العقوبات المشددة عليها لا تمنعها من التمدد وإصابة أهداف دول حليفة للولايات المتحدة.
وعلى عكس الصواريخ الثقيلة ذات القدرة التدميرية العالية أو قنابل الطائرات الثقيلة التي تستهدف تدمير التحصينات أو المنشآت، فإن العبوات التي تحملها الطائرات المسيرة التي يطلقها الحوثيون خفيفة نسبيا، لكنها تحاول أن تهاجم أهدافا تتوفر فيها مواد قابلة للاشتعال مثل خزانات النفط ومحطات ضخ البترول أو الغاز، لكي تسعى لإشعالها من دون ضرورة لتفجير أولي كبير.
وزودت تركيا حلفاءها من الميليشيات الإسلامية في ليبيا بنوعين من الطائرات المسيرة، بعضها من النوع الخفيف الذي يمكن أن يهاجم أهدافا بشكل مباشر بمتفجرات خفيفة وتهدف إلى “قتل” الأشخاص، في حين ثمة نوعية أكبر تحمل صواريخ فعالة لضرب الأهداف وعودة الطائرة المسيرة إلى قاعدة انطلاقها.
وقال مصدر عسكري إن ثلاثة بينهم قياديان من قوات الجيش الوطني الليبي قتلوا، الجمعة، في ضربة جوية بطائرة مسيرة يعتقد أنها تركية على مدينة ترهونة. كما نفذت طائرة تركية أخرى هجوما على القاعدة الجوية بالجفرة.
وكشف خالد المحجوب مدير إدارة التوجيه المعنوي بالجيش الليبي، عن وجود صفقة درون تركية جديدة حصلت عليها حكومة الوفاق مؤخرا، دفعت فيها الملايين من أموال الشعب الليبي.
وأضاف في تصريح خاص لـ”العرب” أن أجواء ليبيا شهدت على مدار الأيام الماضية تحليقا مكثفا لطائرات “البير قدار” التركية المسيرة من طراز (تي.بي 2) وأسقطت دفاعات الجيش الليبي ثلاثا منها في منطقة الجفرة بوسط ليبيا في أثناء إغارتها على قاعدة عسكرية تابعة للجيش فجر الجمعة.
وقال تقرير صادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، إن القيادة التركية بدأت إنتاج الطائرة بيرقدار (تي.بي 2) أوائل عام 2015 واستخدمتها لمراقبة المناطق التي ينشط فيها حزب العمال الكردستاني في المناطق الحدودية مع العراق، وبدأت تستخدمها في ليبيا.
وأكدت حكومة الوفاق مقتل قائدين بارزين من ترهونة وهما محسن الكانية، قائد كتيبة الكانيات، وعبدالوهاب المقري قائد اللواء التاسع في الضربة. كما قتل شقيق الكانية في الهجوم أيضا.
وتعمل أنقرة على تعويض الخسائر المتعددة التي مست نفوذها في المنطقة بالتركيز على الملعب الليبي كورقة نفوذ أخيرة بعد فشل رهانها على “الربيع العربي” وسقوط خيار الإخوان المسلمين إقليميا ودوليا، وكذلك انحسار دورها في سوريا وتحول وجودها هناك إلى مستنقع يصعب الخروج منه في وقت قريب، فضلا عن أزمة اقتصادية وسياسية خانقة داخليا.
وفيما عدا منظومة القبة الحديدية التي أنشأتها إسرائيل لمواجهة المقذوفات الصغيرة والتي تحلق على ارتفاع منخفض والتي يمكن أن تطلقها حركة حماس، فإن الدفاعات الجوية التقليدية تبدو بقدرات أكبر مما تحتاجه العملية وخصوصا أنها منظومات غالية المعدات والصواريخ والإدامة والصيانة كما هو حال منظومات باتريوت التي صممت لإسقاط طائرات مقاتلة أو صواريخ باليستية.
وقال محلل عسكري عن هذا النوع من الطائرات المسيرة وكيفية إسقاطها “إن إسقاط طائرة درون صغيرة بصاروخ باتريوت كمحاولة قتل البعوضة بمطرقة ضخمة”.
ورغم صغر حجمها، فإن الطائرات المسيرة قادرة على الاستهداف الدقيق وبأكثر فاعلية من طائرات عسكرية ثقيلة ذاع صيتها في الحروب مثل طائرات هتلر في-1 في الحرب العالمية الثانية التي كانت سلاح رعب لكنها لم تغير ميزان الحرب.
وتعمل شركات عدة في الدول المتطورة على إيجاد حل لهذا الأمر، لكن أيا منها لم تنجح في مواجهة أجهزة صغيرة، يصعب رصدها والقضاء عليها.
ويقر رئيس سابق لجهاز استخبارات فرنسي بعدم وجود إجراءات مضادة على مستوى العالم للحد من فاعلية هذه الطائرات. ويقول إن “الطائرة المسيرة إذا كانت مبرمجة للانفجار حين تبلغ نقطة ما بواسطة جي.بي.أس فلا يمكن القيام بالشيء الكثير. ينبغي التمكن من رصد موقعها ومحاولة إنزالها بوسائل تقليدية، أي إطلاق النار عليها. ولكن لا بد من مشاهدتها وامتلاك الوقت الكافي للتصدي لها، وذلك ليس سهلا”.
وإذا كان التوظيف التركي لهذه الطائرات مقتصرا على ليبيا، فإن إيران هي المستفيد الأبرز في الشرق الأوسط من لعبة الطائرات الصغيرة، حيث يحاول الحوثيون عبر إطلاق طائرات مسيرة جلب نظر السعودية لفتح حوار مباشر معهم لأجل ترتيبات يمنية تعطيهم نصيب الأسد من السلطة، وتوفر أرضية نفوذ صلبة لإيران، وهو ما ترفضه الرياض وتقاتل لمنعه.
وفي لبنان، يكتفي حزب الله في سياق المناوشة الهادئة مع إسرائيل بتوظيف طائرات مسيرة استطلاعية سرعان ما تسقطها إسرائيل. كما أنه تولى تسريب هذه الطائرات إلى حركة حماس في غزة التي باتت تستخدمها كجزء من أدوات الصراع مع إسرائيل.
وتشير مؤسسة جايمس تاون البحثية إلى أن أسطول حزب الله من الطائرات دون طيار طرح تهديدا ما ينفك يتصاعد لدى الأمن الإسرائيلي خاصة وأن الحرب السورية مكنت الحزب من تطوير واختبار طائراته المسيرة.
العرب