أنقرة – كشفت الأرقام الرسمية في تركيا عن استقالة نحو مليون عضو من حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ العام الماضي، وهو ما يؤكد توقعات رئيس الوزراء التركي الأسبق أحمد داود أوغلو الذي استقال مؤخرا من الحزب بأن “العدالة والتنمية يتجه نحو تصفية نفسه بنفسه”.
وشرعت استقالة أوغلو أحد أبرز مؤسسي العدالة والتنمية الأبواب على مصراعيها نحو تفكك الحزب، الأمر الذي كان متوقعا بعد الخسارة المذلة التي مني بها خلال الانتخابات المحلية في محافظات إسطنبول وأنقرة وإزمير التي فازت بها المعارضة.
ويتساءل مراقبون سياسيون إذا كان المنشقون في السابق يعملون انقلابا ويستولون على الحكم، فإن المنشقين عن أردوغان يتخذون طريقا مغايرة بسحب جمهور الحزب وخزانه الانتخابي، وهي صيغة أخطر لكونها تواجه الرئيس التركي بأسلوبه، عبر اعتماد نتائج الانتخابات كورقة ضغط وفرض للأمر الواقع.
واستنادا إلى موجة الانشقاقات، فإن حظوظ أردوغان وحزب العدالة ستكون محدودة في أي انتخابات مستقبلية، ولن تمكن الرئيس التركي من النفوذ المطلق الذي يحرص على تثبيته الآن، وربما تنجح في قلب المعادلة بخلق تحالف أوسع يطيح به.
وتعكس الاستقالات انفجار الغضب المتراكم داخل حزب العدالة والتنمية على سياسات الرئيس رجب طيب أردوغان الاستبدادية وعلى تخريب الدبلوماسية عبر خصومات مجانية مع الحلفاء والشركاء.
وزادت سياسات أردوغان التي توصف بالفاشلة لاسيما تلك المتعلقة بالوضع الاقتصادي من حدة نفور قيادات من الحزب وقواعده التي لم تنطل عليها تبريراته بوجود “مؤامرة خارجية لتدمير اقتصاد تركيا”.
وبينت أحدث الأرقام التي نشرتها محكمة النقض التركية مطلع سبتمبر الحالي أن 844.391 شخصا قد استقالوا من حزب العدالة والتنمية منذ أغسطس 2018، ليبقى عدد الأعضاء 9.87 مليون شخص.
واستقال ما يقارب 56 ألفا من هؤلاء في الفترة ما بين الأول من يوليو والسادس من سبتمبر. وبالنظر إلى موجة الاستقالات التي حدثت منذ استقالة داود أوغلو في الثالث عشر من سبتمبر، من المرجح أن يكون هذا الرقم أعلى بكثير عند الإحصاء في المرة القادمة.
وأثرت تلك الاستقالات على شعبية الحزب التي تراجعت بشكل خطير خلال الأشهر القليلة الماضية. وانحدر التأييد الشعبي للعدالة والتنمية من 42 بالمئة وهي النسبة التي حققها في الانتخابات التشريعية التي جرت يونيو الماضي، إلى 30.6 بالمئة حسب استطلاع للرأي أجرته مؤسسة أو.آر.سي البحثية المرتبطة بالحزب.
ومن المتوقع أن يلتحق المستقيلون من الحزب بحزبين جديدين ما زالا في طور التأسيس؛ الأول يعمل أحمد داود أوغلو على إنشائه، والثاني يستعد وزير الاقتصاد السابق علي باباجان لإطلاقه بالتحالف مع الرئيس السابق عبدالله غول، الذي كان أحد المؤسسين البارزين للعدالة والتنمية مع أردوغان.
ويتهم أردوغان بالعمل على تهميش القيادات المهمة داخل الحزب التي لم تكن تبدي له الولاء ولا تذعن لأوامره وإملاءاته وخاصة أحمد داود أوغلو وعبدالله غول وعلي باباجان، وهو ما فتح له الطريق لإرساء نظام دكتاتوري داخل الحزب.
وتتواتر الأنباء عن عزم 80 نائبا من العدالة والتنمية الاستقالة من الحزب وهو ما يهدد بفقدانه للأغلبية داخل البرلمان المتكون من 600 مقعد، وبالتالي عجزه عن إقرار القوانين.
وتثير أزمة الاستقالات والانشقاقات داخل العدالة والتنمية تساؤلات مراقبين للشأن السياسي التركي وما إذا كانت خارطة التحالفات السياسية والحزبية ستتغير على ضوء هذه التطورات.
ولا يستبعد هؤلاء المراقبون أن يتحول الحزبان الجديدان بقيادة أحمد داود أوغلو وعلي باباجان في صورة تحالفهما مع حزب الشعوب الديمقراطي، الذي لعب دورا كبيرا في فوز المعارضة بالبلديات الكبرى، إلى منافس قوي للحزب الحاكم.
وبحسب أحدث استطلاعات للرأي فإن هناك حوالي نسبة 12 بالمئة تعلن تأييدها لحزب باباجان المرتقب، وحوالي 9 بالمئة لحزب أحمد داود أوغلو الذي من المفترض أن ينطلق بدوره قريبا، وهاتان النسبتان تؤثّران على نسبة التأييد للعدالة والتنمية، وهما تعتمدان بشكل رئيسي على قاعدته الشعبية.
وكان أردوغان خاض الانتخابات البرلمانية والمحلية الأخيرة متحالفا مع حزب الحركة القومية اليميني المتطرف، وتمكن تحالفهما من الحصول على الأغلبية النيابية، في حين خسر سبع بلديات كبرى، بينها إسطنبول وأنقرة وإزمير.
وأثارت رغبة أردوغان في السيطرة على قرار الحزب استياء عميقا من القيادات المحلية إلى القيادات التنفيذية العليا، وازدادت حدة الاستياء عقب الهجوم العنيف الذي شنه على المنشقين من الحزب في يوليو الماضي، حيث وصفهم بالخونة وتوعدهم بدفع ثمن “تمزيق الأمة”.
ويستبعد محللون أن تدفع الهزائم السياسية والانتخابية والانشقاقات التي مني بها أردوغان وحزب العدالة والتنمية إلى تغيير الرئيس التركي منهجه في الحكم، وتلطيف تعامله مع المعارضة وتجاوز الانقسامات السياسية داخل حزبه.
ولا ترى الكاتبة في صحيفة فايننشال تايمز لورا باتيل أن أردوغان يمكن أن يتخذ منهجا توافقيا بعد ستة أشهر من الانتخابات المحلية التي مُني فيها حزبه بخسائر موجعة في إسطنبول وأنقرة وغيرهما من المدن الكبيرة.
ويؤيد كثيرون ما ذهبت إليه باتيل باعتبار أسلوب العناد الذي يتميز به أردوغان، إذ سبق له أن علق على استعداد باباجان لإطلاق حزبه بالقول “يقولون إن بعضهم يؤسسون حزبا، لا تضعوهم في بالكم، فكم شاهدنا من انشقوا عنا وأسسوا أحزابا، ولم يعد لهم ذكر حاليا، لأن من يقوم بمثل هذه الخيانات حتما يدفع الثمن غاليا”.
العرب