تتسع دائرة “الحياة البدائية” في العراق لتجتاح مناطق خربتها الحروب التي تلت سيطرة “داعش” عليها، ونزوح أهلها بعد نحو خمس سنوات على موجة النزوح، اختلفت طرق العودة الى المناطق السكنية، فبعض النازحين عادوا بإرادتهم بعدما سئموا حياة المخيمات، وبعضهم ما زال ممنوعاً من العودة بعدما استوطنت المليشيات مناطقهم، والبعض الآخر أجبر على العودة بالقوة، من قبل الأجهزة الأمنية. ومن بين الأنقاض تدب الحياة مجدداً لكنها ليست حياة اعتيادية بمقوماتها الحضارية، بل هي حياة بدائية بكل معانيها، حتى أنّك ترى الدخان ونيران مواقد الطبخ تضيء ليل تلك المناطق المظلمة.
وبحسب أبو رائد، وهو أحد أهالي قرية عزيز بلد، التابعة لمحافظة صلاح الدين، والذي عاد إلى منزله قبل أكثر من أسبوع، فإنّ منطقته كانت “خاضعة لسيطرة المليشيات لعدة سنوات، وقد منعتنا تلك المليشيات من العودة بالقوة وسيطرت على منازلنا وبساتيننا”. يقول لـ”العربي الجديد”: “اليوم، أخلت تلك الفصائل المنطقة وجرى إبلاغنا بالعودة إليها. وقد كان خبر العودة مفرحاً بالنسبة لنا”. يستدرك: “لكنّ العودة كانت على غير ما توقعنا، فقد فوجئنا بوضع منازلنا والدمار الذي حلّ بها، فأغلب المنازل مهدمة، ولم يبقَ منها إلّا الركام، وبعضها لا تجد فيها باباً أو نافذة أو سلكاً كهربائياً، وحتى أعمدة الكهرباء في الشوارع وأسلاكها سُرقت وباعتها المليشيات، كما بيعت تجهيزات منازلنا وموادها الأولية، حتى أنّه جرى إخراج قضبان الحديد منها وبيعها”. يتابع: “حال بساتيننا لم تختلف عن حال المنازل، فقد تحولت الى ركام، وأشجارها ميتة بعدما قطعت عنها المياه لسنوات عدة”.
لا يستطيع أبو رائد إكمال حديثه، إذ تغلبه الدموع حزناً على ما وصلت إليه حالهم، ليكمل جاره أبو محمد: “حياتنا اليوم أصبحت حياة بدائية، إذ إنّ منازلنا التي نسكن فيها لا سقوف لها. وضعنا خيماً فوق السقوف، ولا كهرباء أو ماء ولا أيّ مقوّم من مقوّمات الحياة”. يقول لـ”العربي الجديد”: “نستعمل النار والحطب للطبخ، وننقل المياه في سياراتنا من مسافات بعيدة”. يتابع: “لم يصلنا أيّ مسؤول، ولم نسمع منهم سوى الوعود بإعادة الحياة إلى مناطقنا، لكن في الحقيقة، نحن نتحمل كلّ تكاليف ترميم منازلنا، بعدما تركتها الحكومة نهباً لداعش ثم للمليشيات”. يؤكد: “سنسكن في مناطقنا مجدداً بالرغم من كلّ ذلك، حرصاً على عدم التفريط بها، فمن يدري إن لم نعد إليها قد تباع وتصبح ملكاً لغيرنا”.
لا يختلف حال قرية عزيز بلد عن بلدات أخرى في الموصل وديالى والأنبار، والحكومة تتجاهل كلّ ذلك. يقول مسؤول في وزارة الهجرة، لـ”العربي الجديد”: “أغلب المناطق التي عاد إليها النازحون لا تصلح للسكن، ويصدق عليها وصف الحياة البدائية، وحتى المؤسسات التعليمية هدمت فيها، فحال المدارس لا تختلف عن حال المنازل”. يشير إلى أنّ “الوزارة لا قدرة لها على إعادة الحياة إلى تلك المناطق، والمشكلة تتحملها الحكومة”. يؤكد: “إذا لم تكن هناك مخصصات في الموازنة المقبلة لتلك المناطق، فستبقى على حالها البائسة، من دون أي خدمات”، داعياً الحكومة إلى “أخذ ذلك بالاعتبار ومراعاة ظروف أهالي تلك المناطق”.
تؤكد جهات رقابية أنّ عودة النازحين بهذه الطريقة، هي مأساة جديدة توجدها الحكومة لا تقلّ عن مأساة النزوح. ويقول ماجد محمد العزاوي، وهو رئيس منظمة “عطاؤنا”، وهي منظمة مدنية محلية تعنى بحقوق الإنسان بالعراق: “علاج أزمة النزوح بهذه الطريقة هو تكرار للمأساة. يجب على الحكومة أن ترى حال العائلات العائدة، إذ لا يمكن أن يُترك العائدون يعيشون هذه المأساة من دون مخصصات مالية وإعادة إعمار لمناطقهم”. يؤكد: “تلك العائلات عانت الهجرة والبطالة لخمس سنوات، كيف لها أن ترمم منازلها المهدمة؟ وكيف لها أن تعيش بمناطق لا تصلح للسكن؟ وكيف لها أن تعلم أطفالها في المدارس؟ لا قدرة لها لا مال ولا عمل”. ويستغرب الصمت الحكومي إزاء “اتساع الحياة البدائية في العراق”.
الوعود المستمرة للحكومة العراقية بإعادة إعمار المناطق المحررة، لا تتحقق. يقول عضو في الحكومة المحلية لمحافظة نينوى، لـ”العربي الجديد”: “الحكومة العراقية حكمت على المناطق المدمرة بأن تبقى مدمرة من دون إعمار. أكثر من عامين مضت على تحرير الموصل من داعش، وعندما تدخل إلى المدينة القديمة لا ترى فيها غير الركام والغربان التي تنهش في الجثث التي ما زالت تحت الأنقاض”. يؤكد: “لا مخصصات مالية لرفع تلك الأنقاض والجثث التي ما زالت تحتها، متى سيكون الإعمار إذاً؟”. يتابع: “يئس النازحون من كلّ تلك الوعود وهم يعانون داخل مخيماتهم، وقد أجبرت عشرات العائلات منهم على العودة الى تلك المناطق ليبدأوا حياتهم البدائية فيها”.
حتى اليوم، بعد مرور كلّ تلك السنوات على النزوح، تتحدث الجهات المسؤولة عن اجتماعات ومباحثات ومناقشات تجريها لزيادة منحة العائلات النازحة، لكنّ تلك الوعود لم تتحول إلى قرارات بعد. يقول عضو لجنة الهجرة والمهجرين البرلمانية، النائب حسين نرمو، إنّ “هناك توجهاً لزيادة منحة النازحين العائدين إلى مناطقهم الأصلية، لتكون مليونين ونصف مليون دينار عراقي (2100 دولار أميركي)”، مبيناً أنّ لجنته “اجتمعت أخيراً مع وزير الهجرة وناقشت معه برنامج الوزارة لإعادة النازحين، وقد اقترحنا على الوزير زيادة منحتهم”. يؤكد أنّ “الوزير وعد بطرح الأمر على مجلس الوزراء، حتى يكون المبلغ إعانة للعائلات على فتح مشاريع لهم، وأن تعيد الاستقرار الى مناطقهم، إلى حين البدء بإعادة إعمارها”.
وكانت الحكومة قد خصصت مبلغ مليون دينار (840 دولاراً) لكلّ عائلة نازحة في بداية أزمة النزوح، لكنّ هذا الملف دخل إليه الفساد من أوسع الأبواب، ولم تحصل على تلك المنحة إلّا نسبة قليلة جداً من العائلات.
العربي الجديد