حتّى مع تجريمها وانحسارها بشكل ملحوظ، ما زالت “الدكة العشائرية”، وهي ظاهرة قبليّة تتمسك فيها قبائل في وسط وجنوب العراق من أجل “استرجاع الحقوق” من دون تدخل حكومي أو قضائي، لم تنته. ويكاد لا يمر أسبوع واحد من دون حادثة أو حادثتين، مع عدم إمكانية تدخل القوات العسكرية العراقية لفض بعض النزاعات العشائرية، بسبب الخوف من إقحام عناصر هذه القوات كطرف ثالث في المشكلة.
والدكّة العشائرية تتمثّل في إقدام مسلّحين ينتمون إلى قبيلة معينة على تهديد أسرة تنتمي إلى قبيلة ثانية في بيتها، فتتمّ الدكة من خلال عملية إطلاق نار بمختلف الأسلحة بما فيها الثقيلة، أو إلقاء قنابل يدوية أحياناً على منزل الجهة المستهدَفة، كتحذير شديد اللهجة بهدف دفعها إلى الجلوس والتفاوض لتسوية الخلاف. وفي حال عدم موافقة الطرف المستهدف، فإن الأمور قد تتطور لتؤدي إلى وقوع ضحايا من الطرفين.
إثر ذلك، أعلن العراق أخيراً “اعتبار الدكات العشائرية من الجرائم الإرهابية، وضرورة التعامل مع مرتكبيها بحزم”، بحسب بيان مجلس القضاء الأعلى في البلاد. وأشار إلى أن “المادة الثانية من قانون مكافحة الإرهاب الذي أُقرّ في عام 2005، تنص على أن التهديد الذي يهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أياً كانت بواعثه، يُعَدّ من الأفعال الإرهابية”.
ضابط برتبة لواء في وزارة الداخلية يقول لـ”العربي الجديد”، إنّ “الوزارة سجلت أكثر من 16 حالة دكة في محافظات متفرقة في شهر يوليو/ تموز الماضي فقط، منها خمس حالات في البصرة وثلاث في ميسان وحالتان في واسط وثلاثة في بغداد، واعتقل 49 شخصاً كانوا مسلحين وقد اشتركوا بالدكة”. ويبين أن “غالبية الذين اعتقلوا أفرج عنهم في وقت لاحق بكفالة وتعهدات. وكان يفترض إحالة بعضهم إلى القضاء من أجل محاكمتهم، إلا أن ضغوطاً عشائرية مورست على ضباط في الداخلية”. يضيف أن “نسبة الجرائم والمخالفات القانونية المرتكبة على أساس النزاعات العشائرية في مدن وسط وجنوب العراق انخفضت كثيراً بسبب التزام العشائر بالقرارات الحكومية. لكن عموماً، لا يمكن أن نقول إن الظاهرة انتهت، إذ ما زالت بعض العشائر في مناطق بغداد، منها مدينة الصدر وأطراف العاصمة، مرتاحة ولا تلتزم بالقانون، وتمارس الدكة العشائرية في كل خلاف يقع بين شخصين”.
يتابع أنّ “البصرة وبغداد من أكثر المحافظات العراقية انفلاتاً لناحية امتلاك السلاح وعدم احترام القانون. لعل ما هو أسوأ أن غالبية الضباط في الداخلية لهم علاقات طيبة مع العشائر لأنهم أبناء عشائر، ويتم التأثير عليهم اجتماعياً. ولو تمكن الضابط العراقي من عدم الخضوع لرغبات عشيرته أو غيرها من العشائر لتحسن الوضع، ولكانت النتائج جيدة، إذ إن استمرار العقوبات وسجن مرتكبي الدكة سيمنع استمرار بعض القبائل بها”.
من جهته، يشير المسؤول المحلي في محافظة البصرة عامر الوائلي إلى أن “الدكة العشائرية انخفضت في المحافظة بنسبة طفيفة، لا لأن المواطنين باتوا يخافون من سلطة القانون، بل لأن شيوخ عشائرهم ووجهائها تعهدوا للحكومة بأنهم سيمتثلون لأوامر الدولة. وبالتالي، وجهت تلك العشائر أبناءها للامتناع عن الدكة”، موضحاً لـ”العربي الجديد”، أن “العشيرة ما زالت هي الحاكمة في مناطق الفرات الأوسط والجنوب، إذ لا يؤمن الأهالي بالدولة ولا بأهمية المحاكم، إذا ما حصلت مشكلة”.
ويبيّن أن “السلطات الأمنية أوجدت قوة خاصة لحل الخلافات العشائرية في البصرة، وهي قوات الصدمة، التي دُربت وأعدت لغرض التدخل بين العشائر خلال فترة نزاعاتها. مع ذلك، فإن بعض العشائر والعائلات في البصرة لا تلتزم”.
إلى ذلك، يؤكد الشيخ العشائري عبد الله البدري، من محافظة ميسان، أن “العشائر التي عاهدت الحكومة العراقية على منع أفرادها من الاستمرار بخرق القوانين، تعهدت أيضاً عبر خطابات تم تداولها بين أفراد العشيرة الواحدة، بأن من يخرق القانون ويهجم على منازل المواطنين ويمارس الدكة، تتبرأ العشيرة منه. وبفضل هذا الإجراء العشائري، انخفضت نسبة الدكة العشائرية”. ويوضح لـ”العربي الجديد”، أنّ “الفترة التي سبقت قرار مجلس القضاء الأعلى شهدت تحوّل المناطق الجنوبية، وتحديداً ميسان والبصرة، إلى ساحات للحرب، علماً أن عشائر جنوب العراق، كما هو معروف، تمتلك أنواعاً كثيرة من الأسلحة، منها الثقيلة وحتى الصواريخ. ولأن العشيرة تمثل حلقة مهمة في مناطق الجنوب، فلا يمكن للدولة أن تتخذ أي قرار من دون الحصول على تأييد العشائر، ومن خلال تضافر جهود الطرفين يمكن تحقيق القانون”.
ويرى أن “ما يُثير العشائر الملتزمة بقرارات الدولة هو ما يعرف بالشيوخ الـ56، وهي ظاهرة الأفراد الذين يدّعون أنهم شيوخ عشائر ويسمحون لأنفسهم وللأفراد المؤمنين بهم بممارسة الدكة وغيرها من سلوكيات العشيرة التي هجرها الجنوب، مثل النهوة والفصل وغيرها. والأمر يحتاج إلى وقفة جادة من الحكومة والعشائر الأصيلة، ليتم اعتقالهم ومنعهم من الاستمرار بفتح مكاتب لحل مشاكل الناس وفق أهوائهم، ولقاء نسب مالية يتم الاتفاق عليها بين هؤلاء الشيوخ المزيفين”.
ولم تكن الدكة شائعة قبل عام 2003، إلا أنها شاعت كثيراً في مجتمع جنوب العراق بسبب انهيار مؤسسات الدولة العراقية الأمنية والقانونية. وتسبَّبت في وقوع عدد كبير من الضحايا. وتعدّ “الدكة العشائرية” من الأعراف السائدة في جنوب العراق، واتسعت قبل الاحتلال الأميركي للبلاد، إذ لا تعترف العشيرة بالسياقات القانونية وتلجأ إلى الهجوم على العشيرة التي تتنازع معها بشأن المياه أو الأراضي الزراعية، وخلافات أخرى بعضها لا يستحق الاقتتال.
العربي الجديد