شهد مؤتمر حزب العمال البريطاني السنوي، المقام في مدينة برايتون في الجنوب البريطاني، عاصفة بدأت بخلافات حادة حول موقف الحزب من بريكست، وكادت تطيح بعدد من قياداته ممن يخالفون رؤية زعيمه جيريمي كوربن، لتنتهي بقرار بتأجيل الحسم حول بريكست إلى ما بعد الانتخابات العامة. وبالرغم من التوافق العام حول التوجه اليساري للحزب، بقيادة كوربن، الذي تولى منصبه في العام 2015، وذلك بالمقارنة مع الوسطية السياسية والاقتصادية التي تبناها الحزب منذ عهد طوني بلير، إلا أن الانقسامات داخله لم تكن أكثر حدة مما هي عليه حالياً، وتتمحور حول بريكست.
وشهدت أيام المؤتمر الحزبي خطابات متتابعة من وزراء حكومة الظل، أطلق فيها الحزب العديد من الوعود التي تتماشى مع الروح اليسارية الاشتراكية لحزب العمال. وتحت شعار “لا نحيا لنعمل، بل نعمل لنحيا”، أطلق “العمال” خطته لتقليص ساعات العمل الأسبوعية إلى أربعة أيام، أو ما يعادلها من ساعات العمل. بل ووعد أيضاً بتحسين ظروف العمل وزيادة الأجور وتعزيز حقوق النقابات العمالية التي خسرتها أثناء عهد رئيسة الوزراء المحافظة مارغريت تاتشر. كما وعد بالتخلص من المدارس الخاصة، وتطوير المساعدات الحكومية الحالية، وتوسيع مدى الخدمات المجانية التي تقدمها، بالإضافة إلى توفير العناية المجانية للمسنين ودور الحضانة المجانية للأطفال قبل عمر المدرسة. وتضاف هذه الوعود إلى تلك التي أطلقها الحزب في انتخابات العام 2017، عندما وعد بإلغاء الدين الطلابي، وإلغاء أقساط الجامعات، وتأميم خطوط السكك الحديدية وتوسيع برامج الإسكان الاجتماعي.
”
يرى كوربن أن اتفاق بريكست مثالياً سيكون أفضل من عضوية الاتحاد الأوروبي
”
ويعمل حزب العمال على إعادة تأهيل رؤيته الاشتراكية المستمدة من سبعينيات القرن الماضي، وجعلها أكثر قبولاً لدى الأجيال اليافعة من الناخبين. ويعزز ذلك من خلال دعم السياسات البيئية التي تشكل أحد الدوافع وراء الحراك الشبابي في بريطانيا وخارجها، كما تشهد تظاهرات المناخ الأخيرة. وفي سبيل ذلك، وعد “العمال” ببناء العشرات من محطات توربينات الرياح مقابل الشواطئ البريطانية، والتي تعد أحد مصادر الطاقة النظيفة. كما يعد بتخفيض صافي انبعاثات الكربون الآتية من بريطانيا إلى الصفر. تضاف إلى ذلك وعود بتوسيع شبكة محطات شحن السيارات الكهربائية، ودعم الطاقة الشمسية للمنازل الخاصة. وبالطبع دعم قواعد “العمال” وقيادته الحالية المتكرر للقضية الفلسطينية وحق شعب فلسطين بالدولة والعودة لأراضيه.
وبصرف النظر عن إمكانية تطبيق هذه الوعود الانتخابية، نظراً لفاتورتها الضخمة، وعن أن الأحزاب السياسية عادة ما تُسهب في وعودها قبيل مواعيد الانتخابات العامة، والتي ينتظر أن تجرى خلال أشهر قليلة، يعتقد كوربن أن هذه القضايا هي التي تهم المواطن البريطاني، والتي يجب التركيز عليها، بدلاً من بريكست، الذي ما هو إلا خطوة على طريق تحقيق هذه السياسات، سواء تم أم لم يتم. ويعتقد أن الخيار الأفضل للتعامل مع بريكست حالياً هو أن تتمكن حكومة عمالية، تنجح في الانتخابات العامة المقبلة، من التفاوض على اتفاق ضمن رؤية الحزب، والتي تشمل نوعاً من الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي وتقارباً مع السوق المشتركة، بالإضافة إلى حماية حقوق العمال والالتزام بالقوانين البيئية. ويتبع التوصل لهذا الاتفاق، والذي يرى كوربن أنه لن يستغرق أكثر من ستة أشهر بعد الانتخابات، طرحه على البريطانيين في استفتاء ثانٍ، حيث يكون الخيار الثاني البقاء في الاتحاد الأوروبي. وبينما أعلن أنه سيلتزم الحياد في تلك الحال، فإنه يرى أن اتفاق بريكست مثالياً سيكون أفضل من عضوية الاتحاد الأوروبي.
إلا أن قيادات أخرى في “العمال”، على رأسها نائب زعيم الحزب طوم واطسون، بالإضافة إلى أبرز أعضاء حكومة الظل، مثل وزراء بريكست كير ستارمر والمالية جون ماكدونيل والخارجية إيميلي ثورنبيري، كانوا قد أعلنوا أن خيارهم هو دعم البقاء في الاتحاد الأوروبي، والذي يرونه أفضل من أي شكل من أشكال بريكست. ويعكس هذا الانقسام في رأس الهرم العمالي انقساماً في قواعد الحزب الشعبية. فقواعد “العمال” التقليدية في شمال إنكلترا وشمال ويلز، وهي مناطق تعيش أزمات مع تحول الاقتصاد البريطاني بعيداً عن الصناعات وباتجاه الخدمات المالية، كانت قد صوتت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء العام 2016. أما قواعد الحزب في المدن الكبرى، مثل لندن، والتي تمثل الشريحة الأكبر بين مؤيديه فهي تعارض بريكست بشدة وصوتت بأغلبية كبرى لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي. بل إن إسكتلندا، التي خسرها “العمال” كلياً في انتخابات 2015، كانت قد صوتت ضد بريكست في استفتاء العام التالي.
وتخلط هذه الحسابات الانتخابية أولويات الحزب، خصوصاً عند قياسها بمدى التأييد لعضوية الاتحاد الأوروبي ومدى الولاء لزعيم حزب العمال جيريمي كوربن. فعلى سبيل المثال، يعد واطسون من المدافعين عن عضوية الاتحاد، ومن المطالبين بتبني الحزب هذه السياسة رسمياً قبل موعد الانتخابات العامة، وهو ما دفعه مراراً للاختلاف مع تصريحات ومواقف كوربن. إلا أن مؤيدي زعيم “العمال”، الذين يهيمنون على مفاصل الحزب منذ ترؤسه له، تقدموا بمقترح لإلغاء منصب نائب زعيم الحزب خلال اليوم الأول من المؤتمر، في مسعى للتخلص من واطسون، لولا تدخل كوربن شخصياً لوقف هذه الخطوة التي كانت ستقود إلى انشقاقات أوسع في صفوف “العمال”. إلا أن لين مكلاسكي، وهو من أشهر القيادات النقابية الداعمة لكوربن، اعتبر أن التطورات الأخيرة ما هي إلا “اختبار ولاء”، مطالباً قيادة “العمال” بالاصطفاف وراء كوربن أو “التنحي”.
”
يعكس الانقسام في رأس الهرم العمالي بشأن بريكست انقساماً في قواعد الحزب الشعبية
”
ويصر مؤيدو عضوية الاتحاد الأوروبي على ضرورة تبني هذه السياسة قبل موعد الانتخابات العامة، لخوفهم من فرار أصوات الناخبين لصالح الديمقراطيين الليبراليين والخضر، عدا عن عدم القدرة على كسب أي مقاعد في إسكتلندا، حيث إن أغلبية ناخبي “العمال” من مؤيدي الاتحاد الأوروبي. ويجادلون بأن غموض كوربن الحالي يُضعف من فرص الحزب في الفوز بأي انتخابات عامة مقبلة. وتبنت اللجنة التنفيذية الوطنية لحزب “العمال” مقترح كوربن عقد مؤتمر خاص بعد الانتخابات العامة للبت في الموقف من بريكست، وفقاً للخطة التي اقترحها. إلا أن اللجنة طلبت من أعضائها التصويت عن طريق البريد الإلكتروني، بدلاً من الاجتماع الرسمي، ربما تجنباً لمزيد من المشادات. ومن جانبها طلبت نحو 50 من المجموعات الفرعية المعارضة لبريكست، مساء الأحد الماضي، التصويت على قرار يعارض ذاك الخاص بكوربن، ويطلب التبني الفوري لعضوية الاتحاد الأوروبي في برنامج الحزب الانتخابي.
وجاء التصويت في اليوم التالي في صالح موقف كوربن ورافضاً لمعارضة بريكست، رغم انتقادات بأن أنصار زعيم “العمال” حشدوا القاعة بمؤيديه، وأن نتيجة التصويت لا تعكس حقيقة الدعم الانتخابي للحزب، بل إن البعض اتهم إدارة التصويت، الذي تم برفع الأيدي فقط، بالانحياز لموقف كوربن من دون التدقيق في عدد الأصوات الفعلي. وبتبني الحزب رسمياً لهذا الخط فقد حسم أمره بعدم حسم أمره حتى مرحلة لاحقة، تكون معالم بريكست فيها أكثر وضوحاً. لكن عدداً من قادة الحزب، مثل عمدة لندن صادق خان، رفضوا هذا المنحى، ليصروا على معارضتهم لبريكست. وأعرب ستارمر عن “مشاعره المختلطة” حيال موقف كوربن، بينما قالت ثورنبيري إنها تدافع عن البقاء في الاتحاد الأوروبي، وستدعو للتصويت لصالحه في الاستفتاء الثاني، في رسالة قرأ فيها البعض تجهيزاً لنفسها للمنافسة على خلافة كوربن في المستقبل. وما يعكس أيضاً الإحباط من موقف “العمال” من بريكست استقالة أندرو فيشر، أكبر مستشاري كوربن، الذي يعد من مهندسي النجاح العمالي في انتخابات 2017. واتهم فيشر، في رسالة استقالته، فريق كوربن بأنه يفتقر “للمهنية والكفاءة واللباقة”. وأكد أن سعي الحزب لإرضاء الجانبين حول بريكست سيؤدي إلى الفشل الانتخابي.
وفي ظل الفوضى التي تسود الساحة السياسية البريطانية حول بريكست حالياً، يصعب التنبؤ بمدى حكمة قرار كوربن. فقد يجد نفسه على رأس حكومة بديلة مكان بوريس جونسون، الذي يجد مستقبله في رئاسة الوزراء في خطر مستمر مع كل هزيمة يتلقاها في البرلمان أو المحاكم أو بروكسل. وربما تسفر الانتخابات عن برلمان معلق جديد، تلعب فيه الأحزاب من الدرجة الثانية، مثل الديمقراطيين الليبراليين والقوميين الإسكتلنديين، دور “صناع الملوك”، وهي التي لا تخفي أبداً معارضتها لشخص كوربن، وسياسته حول بريكست.
العربي الجديد