قرأت مقالاً مثيراً كتبه أميركي كان سجيناً في إيران بتهمة التجسّس الأثيرة، وقد تكون صحيحة، إلى قلوب الإيرانيين الشديدي الحساسية تجاه سيادتهم وكرامتهم الوطنية. ربما يذكر بعض القرّاء قصّته، إذ كان واحداً من ثلاثة شبان قالوا إنهم كانوا يقومون بجولة على الأقدام في كردستان العراق، ولم يدركوا أنهم عبروا الحدود إلى إيران. وُضع كل من السجناء الثلاثة في زنزانة انفرادية حتى أضرب كاتب المقال عن الطعام مطالباً برؤية أصدقائه في شكل دوري. وبعد أيام قليلة، سمح له السجّانون، وهم، وفق ما كتب، تابعون لوزارة الخارجية وليسوا موظفين في وزارة العدل أو الداخلية، بلقاء زملائه ففكّ إضرابه عن الطعام.
لكن ذلك كان لقاءه الأخير بزملائه. فحين طالبهم بتنفيذ وعدهم بتكرار اللقاءات، أبلغوه بأن زميليه قالا إنهما لا يريدان اللقاء به. وكان الأمر كذلك، حين طالب بتسليمه الرسائل التي يبعثها أهله إليه، فجاءه الجواب أنهم انقطعوا عن الكتابة له. ويبني الكاتب على تجربته ليتوصّل، وهنا المثير في المقال، إلى ضرورة إبرام الاتفاق النووي مع إيران، لأنه أفضل السبل للتعاطي مع قيادة شديدة الدهاء والمراوغة.
تؤكد هذه القصة رأياً يتبنّاه كثر، وأنا منهم، يدعو إلى التخلّي عن النظر إلى القيادات الإيرانية كمجموعة من المتعصّبين المكرّسين أنفسهم للقتال من أجل نشر المذهب الشيعي، وفرض قيَم ثورتهم الإسلامية على العالم أو على الشرق الأوسط. ربّما كانت هذه هي حالهم خلال العقد الأول من الثورة، وهو ما تشترك فيه إيران مع كل النظم الأيديولوجية التي تأتي إلى الحكم وهي ترى العالم من منظور عقيدة تؤمن بأنها الترياق الصحيح الوحيد لحلّ مشاكل العالم، لتكتشف بعد حين أن العالم أكبر من أيديولوجيتها، وأنه قادر على حلّ مشاكله من دون اعتناق مبادئ كتاب القذّافي الأخضر أو أفكار الوحدة والحرية والاشتراكية البعثية والناصرية أو الأممية البروليتارية الشيوعية، بل لعلّ هذا العالم نجح في حلّ مشاكله لأنه تجنّب اعتناق عقائدها.
لا شك في أن الغالبية السكانية الشيعية في العراق والبحرين، وغلبة الشيعة السكّانية على لبنان، والحكم العلوي في سورية، والكتلة السكّانية الزيدية في اليمن، تقدّم مبررات أيديولوجية توظّفها القيادة الإيرانية لمدّ نفوذها، لكن تلك القيادة برهنت عن قدرتها على تطويع البعد المذهبي أو الديني حيثما تطلّبت مصلحتها. فهي مع «حماس» السنّية ضد السلطة الفلسطينية السنّية، وهي بعيدة من التورط في الدفاع عن شيعة أفغانستان تجنّباً للصدام مع «حركة طالبان»، وهي غير مستعدّة لرفع الصوت ضد اضطهاد المسلمين في الصين على حساب تحالفها مع الأخيرة، وهي تسند أرمينيا المسيحية في وجه غريمتها أذربيجان المسلمة المدعومة من تركيا، وهي لم تفعل شيئاً لنجدة مسلمي البوسنة حين كانوا ضحية مذابح الصرب، حلفاء حليفهم الروسي.
لكن ثمة سابقة أهم بكثير، تلقي الضوء على السياسة الخارجية الإيرانية، تتمثّل في موقفها المشجّع للأسد على تدريب مئات، وربما آلاف، من عناصر «القاعدة»، وتسهيل عبورهم إلى العراق خلال السنوات الثلاث الأولى من الاحتلال الأميركي، غير مبالية بالفظائع التي ارتكبوها في حق الشيعة ما دام ذلك يضعف خصمها.
إيران الدولة ذات المصالح شديدة المرونة في التعاطي مع المتغيرات، على عكس إيران الأيديولوجيا التي ترهن مصالح الدولة بتعظيم سلطتها المذهبية إقليمياً. إيران الأيديولوجيا تستند إلى مرشد يدرك أنه سيفقد أساس سلطته على شعبه إن لم يكسِها بعمامة رجل الدين. إيران الدولة تدرك أن أولى الأولويات اليوم هي انفتاح الغرب، لا سيّما أميركا، عليها لكي ترسّخ قوتها داخليا وإقليمياً. والاحتفالات الجماهيرية الصاخبة بتوقيع الاتفاق، لن تدخل روحاني في سجل القادة التاريخيين لإيران فقط، بل هي ستساعده على لجم رجال الأيديولوجيا الذين أطلقوا حملة إعلامية صاخبة تحذّر من الاحتفال بالمناسبة، لأن الاتفاق جاء لمصلحة الغرب، كما روّجوا، أو لأن الاحتفال سيرسل رسالة إلى الغرب توحي بأن الإيرانيين مستميتون للوصول إلى اتفاق بأي ثمن.
لكن التخوّف أو الترحيب بالاتفاق سابق لأوانه كما أظن، ولا يكمن السبب في أنه ينتظر موافقة المرشد الإيراني ومجلس تشخيص مصلحة النظام عليه. فالأيديولوجيون يدركون أنهم قد يواجهون ما يشبه الثورة الشعبية إن أحجموا عن التوقيع. التخوف أو الترحيب سابق لأوانه لأن نتائج الاتفاق الإيجابية على إيران لن تظهر كاملة في المدى القريب. فالاتفاق مليء بالشروط التي على المجتمع الدولي التثبّت من تلبية إيران لها. وعودة الصادرات النفطية إلى سابق عهدها ستتطلّب سنتين على الأقل، كما يرى الخبراء، لأسباب تقنية. وأسعار النفط تتزايد انخفاضاً. والإطلاق الفوري لأرصدة إيرانية مجمّدة تقدّر بمئة مليون دولار، لن يحل مشكلة التضخّم الفلكي ولا بطالة ربع الشباب في بلد سكّانه ثمانون مليوناً. ومع أن الاتفاق سيمرّ أميركياً لأن الرئيس أوباما هدّد باستخدام الفيتو إذا رفضه الكونغرس، فإن رفع إيران من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهو ما يجعلها خاضعة لمجموعة أخرى من العقوبات، لن يمرّ بسهولة ولن يتحقق قريباً.
قد يكون قلق معظم دول مجلس التعاون الخليجي من الاتفاق مبرّراً، لكن التعاطي المرن معه والترحيب المحسوب به، قد يكونان الأسلوب الأفضل للتقليل من نتائجه السلبية، بل لتحقيق بعض المكاسب. فالجديد في هذا الاتفاق يكمن في أنه لم يُبرم بين إيران والغرب فقط، بل هو بين إيران والغرب فضلاً عن روسيا والصين الراميتين بثقلهما وراء إيران، وهو ليس بالتالي اتفاقاً يمكن الضغط على أميركا للتخلّي عنه بالاستناد إلى طرف دولي تتقاطع مصالحه مع المصالح الأميركية. ومن مصلحة العرب دعم إيران روحاني الرامي بثقله وراء الاتفاق، في مواجهة تعصّب خامنئي المذهبي المعارض له.
لن تتخلى إيران عن مواقع نفوذها في العراق من دون بلورة كل العراقيين موقفاً موحّداً تجاهها. لكنها، وهي الساعية إلى التخلّص من صورتها كدولة داعمة للإرهاب، قد تُجبَر على تقديم تنازلات من أجل تسوية منتصف طريق في سورية ولبنان واليمن.
جرّب نتانياهو، ولا يزال يجرّب، طريق المجابهة المتعجرفة لمنع الوصول إليه، وانتهى معزولاً أوروبياً ومكروهاً من قطاع كبير من مؤسسة الحكم الأميركية. وجرّبت إيران طريق المرونة وطول النفس وحققت بعض، لا كل، ما أرادت. ولعل هذه الفرصة الأولى التي يستطيع العرب أن يتفوّقوا فيها على إسرائيل في فن الديبلوماسية وإدارة العلاقات الدولية.
عصام الخفاجي
صحيفة الحياة اللندنية