في مشهد غريب يعكس الانحرافات التي شهدها العراق في مرحلة ما بعد الاحتلال، يقف رئيس الوزراء العراقي السابق ونائب الرئيس الحالي نوري المالكي على المنصة، ويُلقي محاضرة عن التاريخ الإسلامي القديم، وعن صحابة النبي محمد، والقرآن الكريم.
طيلة سنوات معارضته للنظام البعثي، كان المالكي معروفًا بأنه رجل العمليات المشبوهة. واشتهر خلال السنوات الثقيلة من حكمه بإشرافه الشخصي على بعض عمليات الاختلاس، والفساد التي لم يشهدها العراق في تاريخه. كما عُرف عنه بناء جهاز موازٍ للدولة وموالٍ له شخصيًا، وجيش من رجال الميليشيات السابقة. وفوق كل هذا، كان يُعرف بانتهاجه سياسات طائفية والسعي نحو الهيمنة.
انتهى حكمه بفشل تام تجلى في انهيار جيشه في مواجهة بضع مئات من المقاتلين الذين ينتمون إلى تنظيم داعش. وانتهى الحال بهذا الأخير وهو يسيطر على ثلث العراق. ومع ذلك، لم يكن أحدًا يعرف أنّ المالكي، سواء خلال السنوات التي قضاها في المعارضة أو خلال السنوات التي قضاها في الحكومة، خبير في التاريخ الإسلامي، قادر على مناقشة الأحداث الرئيسة في العالم الإسلامي بطريقة علمية. ومع ذلك، هذا هو بالضبط ما حدث عندما أعطى المالكي لنفسه الحق في إدانة الغالبية العظمى من صحابة الرسول، والتشكيك في صحة القرآن الكريم.
هجوم المالكي على القرآن الكريم
قال المالكي إنّ أصحاب النبي روّعوا المجتمع الإسلامي الأول وفرضوا عليه نسخة من القرآن الكريم وضعوها سويًا، مما يعني أن القرآن الذي يقرأه المسلمون الآن ليس صحيحًا.
غرابة ما قاله المالكي لا تنبع من طبيعة خطابه؛ غالبًا ما تكون هذه الادعاءات صنيعة شيعي جاهل متطرف؛ بل يأتي شذوذ قوله من حقيقة أن هذا الرجل كان حاكمًا لجميع الطوائف العراقية، سواء المجتمعات السُنية أو الشيعية، المسلمين أو المسيحيين. لقد كان من المتوقع أن يُظهر بعض الاحترام لأديان شعبه بدلًا من إهانة عقيدة يدين بها نصف سكان العراق.
ولكن هناك ما هو أخطر من ذلك. إذا كان المالكي ليس مؤهلًا لتناول المسائل التاريخية الكبرى في الإسلام، فمن المؤكد أنّه يعبّر عن المعتقدات الراسخة التي لا يمكن فصلها عن الخطوات السياسية الشاملة والمواقف التي تبناها خلال سنوات حكمه. ولكن إذا كانت معتقدات المالكي هي المعتقدات نفسها التي تتبناها الطبقة السياسية الشيعية الحاكمة في عراق ما بعد عام 2003 بشكل عام، فإنّه يمكن استنتاج أن العراق تتجه نحو مستقبل أكثر قتامة بكثير مما كانت عليه خلال العقد الماضي.
طوال فترة الثمانينات والتسعينات، كان زعماء المعارضة الشيعة في العراق حريصين على التأكيد على انتمائهم إلى الأمة الإسلامية العالمية. كما حافظ قادة المعارضة الشيعة من حزب الدعوة والمجلس الأعلى للمسلمين على علاقات وثيقة مع القوى الإسلامية السُنية، حتى إنّ بعضهم لم يخف تأثرهم بالمفكرين والمنظرين الإسلاميين السياسيين من السُنة.
التراجع إلى الطائفية
ومع ذلك، فإنّ فشل انتفاضة الشيعة في جنوب العراق خلال الأسابيع القليلة التي تلت حرب الكويت عام 1991 أثار شعور اليأس داخل قوى المعارضة الشيعية. وبدلًا من الاستجابة لفشلهم من خلال ارتباط أقوى مع التيار الإسلامي العام، تراجعوا نحو مواقف شيعية طائفية.
في عام 2003، مكّنت عناصر مؤثرة من المحافظين الجدد داخل إدارة جورج بوش الابن القُوى السياسية الشيعية للسيطرة على العراق والهيمنة على الدولة الجديدة التي بُنيت خلال سنوات الاحتلال. وفجأة أصبحت رموز المعارضة الذين أمضوا جزءًا كبيرًا من حياتهم في المنفى حكّامًا للعراق. وكان من المتوقع منهم أن يرتقوا إلى مستوى الحدث والعمل من أجل إعادة بناء الدولة العراقية والوحدة الوطنية.
كل الذين حكموا العراق منذ ولادتها في عشرينات القرن الماضي اعترفوا بالتحدي المنبثق عن التنوع الطائفي والعرقي، وأصبحوا على دراية تامة بضرورة بناء وحدة الأمة على أسس تتجاوز الخلافات الطائفية والعرقية. لكنّ الأمر لم يستغرق الكثير من الوقت حتى أظهرت الطبقة الحاكمة الجديدة جهلاً مطلقًا بالبلاد الذين تولوا مقاليد الحكم فيها. ببساطة، لم يكن هؤلاء الحكام قادرين على تحرير أنفسهم من أغلال ميولهم الطائفية الخاصة والتوجّه الثقافي.
بعد الغزو: إيران
لكن ثمة عامل آخر لعب دورًا رئيسًا في طائفية هؤلاء الحكّام. فراغ السلطة الذي خلّفه الاحتلال وانهيار الدولة حوّل العراق إلى منطقة للنفوذ الإيراني. لقد كانت الأغلبية الساحقة من الطبقة الحاكمة الشيعية الجديدة متحالفة مع إيران خلال سنوات المعارضة والمنفى، ولكن لأنهم أصبحوا حكامًا لواحدة من أهم وأغنى الدول في الشرق الأوسط، لم تعد هناك حاجة إلى الخضوع لإرادة الإيرانيين.
ومع ذلك، وعلى مرأى ومسمع من سُلطات الاحتلال، تمكّنت إيران في غضون فترة قصيرة جدًا من الوقت من اختراق المؤسسات الرئيسة للدولة العراقية الجديدة. ليس ذلك فحسب، بل شكّلت إيران عددًا من الميليشيات المسلحة التي كانت موالية تمامًا لطهران. ونتيجة لذلك، وبدلًا من الحفاظ على استقلال الدولة التي سيطروا عليها، بدأ الحكّام العراقيون الجدد المنافسة في إظهار الولاء لإيران وقادتها. وفي ظل عدم وجود قاعدة عرقية لغوية وطنية مشتركة، ظهر التشيع في شكله الأكثر تطرفًا في قلب هذا الولاء.
ازداد التوتر الطائفي في المشرق منذ غزو واحتلال العراق، ليصل إلى مستوى جديد مع اندلاع الثورات العربية. وبدأ التوتر الطائفي من العراق نفسه، وخيّم على البلاد من خلال الحرب الأهلية الطائفية خلال السنوات القليلة التي أعقبت الغزو والاحتلال.
كما تورطت عناصر من داخل الطبقة الحاكمة الشيعية في تأجيج نيران هذه الحرب. ولم تكد تنطفئ نيران الحرب الطائفية العراقية حتى عانت لبنان من مواقف سياسية داخلية من حزب الله بدأت بمحاولة إخضاع الدولة اللبنانية لأهوائها الطائفية الخاصة.
انتشار الفيروس
مع وصول الثورات العربية، أصبحت سوريا ساحة لصراع طائفي دموي وقف في قلب هذا الصراع حزب الله وإيران. وبدأ المقاتلون الشيعة التدفق من أفغانستان وباكستان والعراق من أجل الدفاع عن نظام الأسد. وبدا واضحًا أن إيران كانت تسعى لتدويل التوتر الطائفي وذلك لاختراق جميع الأراضي التي توجد فيها التعددية الطائفية الإسلامية. وعلى نحو فعّال، تجلى المسعى الإيراني سريعًا في محاولة الحوثيين الحمقاء للسيطرة على اليمن.
ويبدو أنّ المالكي وغالبية الطبقة الحاكمة الشيعة في العراق لم يتعلموا الكثير من سنوات الصراع الطائفي في العقد الأول من هذا القرن. كما أنه لم تُؤخذ بعين الاعتبار ضرورة تحصين العراق في مواجهة رياح التوتر الطائفي الذي اجتاح المنطقة بأكملها.
بمجرد اندلاع الثورة السورية، شرع المالكي في مطاردة شركائه السُنة في العملية السياسية، واحدًا تلو الآخر. وعندما نزل أهل السُنة العراقيون إلى الشوارع في المحافظات ذات الأغلبية السُنية للمطالبة بالاعتراف بحقوقهم الأساسية، لم يخف رئيس الوزراء في تصريحاته، المعلنة والسرية، النهج الطائفي المطلق الذي كان ينتهجه تجاه الملايين من مواطنيه.
سحق المعارضة
ومثلما فعل نظام الأسد في سوريا، لجأ المالكي إلى عنف الدولة من أجل سحق المتظاهرين في مدن الأنبار وصلاح الدين ونينوى. ولم تكن مطالب المتظاهرين كبيرة ولا استثنائية. كان يمكن تلبيتها دون تقويض سلطة الدولة أو موقف الحكومة. ومع ذلك، اختار المالكي، الذي كانت تحركه الانتماءات الطائفية، طريق المواجهة.
واليوم، يعود المالكي للتعبير عن قناعاته الطائفية بأوقح وأبشع طريقة. ملاحظاته حول بداية العصر الإسلامي لن يكون لها أي تأثير على الطريقة التي يرى بها المسلمون تاريخهم. ما تشير إليه هذه الملاحظات هو أنّه سيكون من المستحيل إعادة بناء وحدة وطنية في العراق تحت وطأة هذه الطبقة الحاكمة.
بفضل الفشل الصارخ للمالكي في الحُكم، انتهى الوضع بتقسيم العراق بين داعش، وحكومة بغداد، وسلطة ميليشيات الحشد الشعبي، والتي يبدو أنها مستقلة تمامًا عن حكومة العبادي، وتوسع سلطة الأكراد والتغلغل الإيراني العميق في جسد الدولة العراقية. ويبدو حتميًا أن العراق قد تستغرق وقتًا طويلًا للغاية قبل أن تخرج من مأزقها، إذا كان هذا الخلاص لا يزال ممكنًا.
د.بشير موسى نافع
صحيفة القدس العربي
التقرير