روسيا ونهاية العولمة الأمريكية

روسيا ونهاية العولمة الأمريكية

russia-warns-citizens-about-traveling-to-america-or-allied-countries

تشير التصريحات المتشنجة لبعض القادة العسكريين الأمريكيين تجاه روسيا، إلى أن واشنطن بدأت تعيش فعلاً أجواء تراجع العولمة الأمريكية، نتيجة للتحديات التي باتت تواجه السياسة الأمريكية على المستويين الداخلي والخارجي؛ فقد أظهرت الصراعات العنصرية بين أوساط الشعب الأمريكي أن هذا المجتمع بدأ يتجه بخطى ثابتة نحو المواجهة العرقية وإلى مزيد من الاستقطاب الهوياتي الحاد، الأمر الذي دفع الكثير من المحللين إلى التأكيد أنه كان من الخطأ من البداية استنتاج أن انتخاب رئيس أسود، على أنه يمثل مؤشراً على تراجع العنصرية في أمريكا؛ تماماً مثلما كان من الخطأ اعتبار انتخاب بنازير بوتو في باكستان، بوصفه مؤشراً على مساواة المرأة للرجل في هذه الدولة التي يتعامل فيها المجتمع مع المرأة بطريقة أقل ما يقال عنها إنها جد محافظة وشديدة الانغلاق. أما أبرز مؤشرات تراجع الهيبة الأمريكية على المستوى الخارجي فقد تمثلت بشكل لافت في التحدي الذي مارسته «إسرائيل» لسلطة البيت الأبيض، وأحسب أن الجميع بات يتذكر الخطاب المستفز الذي ألقاه رئيس الوزراء نتنياهو أمام أعلى مؤسسة أمريكية منتخبة.

ونستطيع أن نزعم في هذا السياق أن العودة القوية لروسيا على الساحة السياسية الدولية، لا يعبّر في واقع الحال عن تطور مفاجئ للقوة الروسية، بقدر ما يفصح بشكل لافت عن تراجع القوة الأمريكية، وعن حاجة العالم إلى تشكيل توازنات دولية جديدة قادرة على ملء الفراغ الذي بدأ يحدثه الانسحاب الأمريكي المتسارع في أكثر من منطقة من المناطق الاستراتيجية في العالم. وعليه فإن الحديث عن نهاية العولمة في نسختها الأمريكية، ليس مجرد شطحات نظرية، لأن الدول الكبرى وفي مقدمها الدول الغربية بدأت تلجأ إلى مزيد من الانكفاء على الذات من أجل تجاوز مرحلة الأزمة الاقتصادية الحالية التي باتت تتخذ شيئاً فشيئاً صورة أزمة حضارية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. من المؤكد في كل الأحوال أن هناك جوانب عديدة ممّا يسمى بالعولمة مازالت وستظل جزءاً من النظام الدولي الراهن، لأنها تعبّر عن الوضعية الدولية الجديدة المتسمة بما يمكن أن نسميه بالتبعية المتبادلة للمجموعات والتكتلات الاقتصادية وللدول الوطنية بما فيها القوى الكبرى، لأنه من غير الوارد في هذه المرحلة التاريخية المعقدة، أن تتمكن دولة ما من الاكتفاء بذاتها أو الانغلاق على نفسها، لأن ميكانيزمات السوق الدولية تفرض قواعدها الملزمة على الجميع. بيد أنه يجب الاعتراف بأن هذه القواعد الملزمة تفعل فعلها وتمارس تأثيرها، بعيداً عن الصورة الكاريكاتورية للدولة «الكونية» المزعومة التي كانت تروج لها الدعاية الأمريكية، والتي ظلت تدافع في اللحظة نفسها، باستماتة وبكل بسالة، عن الأحادية القطبية التي حاولت أن تُحكم هيمنتها على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين.
يذهب – في سياق متصل – قسم معتبر من النخب الغربية المتنورة إلى التنديد بمحاولات تجار الأسلحة الهادفة إلى إدخال العالم في دوامة سباق تسلح جديد، من خلال الإصرار على تقديم روسيا بوصفها تمثل التهديد الأول والمباشر للدول الغربية وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية، وترى هذه النخب أن هؤلاء المغامرين يمارسون سياسة انتحارية من خلال سعيهم من جهة أولى إلى تسيير وتوظيف الخطر الإرهابي عوضاً عن محاربته، ومن خلال رغبتهم المتهافتة، من جهة ثانية، في إحياء أجواء الحرب الباردة، في عالم بدأ يشهد تهديدات اقتصادية وأمنية غير مسبوقة، نتيجة لعدم قدرة الكثير من الدول الوطنية على بسط سلطتها على جغرافيتها المحلية، إما نتيجة لعوامل داخلية أو نتيجة لعوامل خارجية ناجمة عن الغزو الأجنبي كما حدث في العراق.
ويمكن القول إن نهاية العولمة الأمريكية لم يعد مرادفاً في كل الأحوال، وبخاصة في هذه المرحلة، لعودة الثنائية القطبية التي سادت في أواسط القرن الماضي، لأننا أصبحنا نعيش مرحلة التبعية المشتركة في عالم متعدد القوى، وليس في مرحلة الانجذاب القطبي مثل الكوكب الذي تدور في فلكه كواكب أخرى؛ فقد بيّنت الأزمات الأخيرة أن بعض القوى الكبرى ومعها القوى الإقليمية الفاعلة، ترفض الانجرار وراء المقاربة الأمريكية بالنسبة لتطور الأحداث، وقد بدا ذلك جلياً من خلال إصرار كل من فرنسا وألمانيا على تبني نهج سلمي وتفاوضي في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية، التي حاولت الولايات المتحدة وبريطانيا توظيفها من أجل شيطنة روسيا والتلويح مرة أخرى بالخطر الروسي المزعوم. واستطاعت بعض القوى الإقليمية وفي طليعتها المملكة العربية السعودية أن تكسر الطوق الأمريكي، من خلال اتخاذ سلسلة من الإجراءات، التي كان من أبرزها الزيارة المهمة التي قادت الأمير محمد بن سلمان إلى موسكو، والتي تمخضت عنها اتفاقيات في غاية الأهمية، وتلتها بعد ذلك اتفاقية أخرى مع باريس من أجل تجسيد خيار العلاقات الدولية الجديدة المبنية على تشابك المصالح وتعدد الفاعلين الدوليين والإقليميين.
علينا الإقرار إذن، أن روسيا استطاعت من خلال الاتفاقيات المهمة التي أُبرمت على هامش منتدى سانت بترسبورغ الأخير واجتماع زعماء مجموعة البريكس، أن تبرهن للولايات المتحدة وللاتحاد الأوروبي أن العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، ليست قاتلة حتى وإن كانت مؤلمة؛ لأن العالم بدأ ينسج رويداً رويداً خطوط تبادل وشراكة جديدين يمكن أن تكون مستقبلاً بديلاً للخطوط التي تهيمن عليها الولايات المتحدة ومعها الدول الغربية الكبرى، وبالتالي فإن إيجاد فضاءات جديدة للتبادل والتعاون الدولي خارج الفضاء الذي فرضته العولمة الأمريكية، بات يمثل حاجة ملحة بالنسبة للقسم الأكبر من دول العالم، ولم يعد مجرد شكل من أشكال أحلام اليقظة التي تراود مخيلة الدول المغلوب على أمرها، لأن التحدي الجديد تقوده دول تملك مؤهلات اقتصادية وعسكرية هائلة مثل روسيا والصين.
لا بد من التنويه في النهاية أن الحديث عن روسيا ودورها المحوري في العالم الجديد الذي بدأ يتشكل سواء بالنسبة للفاعلين الدوليين أو الإقليميين، لا يهدف إلى تغيير أو استبدال ولاءات قديمة بولاءات أخرى جديدة؛ ولكنه يرمي إلى تأسيس شكل جديد من الندية في العلاقات الدولية من أجل تجنيب العالم والإنسانية برمتها مخاطر حروب عالمية جديدة، من شأنها أن تفضي إلى زوال البشرية. ويأخذ الحديث عن روسيا مشروعيته من منطلق أن هذه الدولة باتت تملك رصيداً تاريخياً مهماً في رفض ومشاغبة الهيمنة التي يمارسها المعسكر الغربي على العالم، وهي الهيمنة التي باتت تقلل حتى بعض الأطراف الفاعلة من داخل هذا المعسكر، الأمر الذي يدفع بشكل حتمي نحو تبني آراء ومقاربات جديدة، فوحدهم الأغبياء هم الذين لا يغيرون آراءهم كما يقول المثل الفرنسي الدارج.

حسين الزاوي

صحيفة الخليج