ما هي نهاية اللعبة التركية في سوريا؟ تجيب مديرة برنامج تركيا بمعهد الشرق الأوسط في واشنطن غونول تول في مقال بموقع مجلة “فورين أفيرز” قائلة إن العملية العسكرية في شمال سوريا ليست مجرد مناورة بل لها علاقة بمصير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وأكدت الكاتبة أنه طالما قامت السياسة التركية في سوريا على فكرة تعزيز سيطرة أردوغان على الحكم. فقد دعمت تركيا المتمردين الإسلاميين في سوريا ضد نظام بشار الأسد مما زاد من رصيده الديني في داخل البلاد. وعندما اضطر أردوغان للتحالف مع حزب معاد للأكراد، حرف نظره لمواجهة الجماعات الكردية المسلحة العاملة في سوريا.
ويظل الهدف هذا قائما لكن غطت عليه قضية ملحة أخرى تتعلق بملايين اللاجئين السوريين وكيفية التخلص منهم بعدما أصبحوا عبئا على أردوغان. ولا يوجد ما يضمن أن تحل عملية عسكرية هذه المشكلة، إلا أن أردوغان مصمم على المحاولة.
خطته تقوم على إنشاء منطقة عازلة بطول 300 ميلا وعمق 20 ميلا وتكون تحت السيطرة التركية وخارج نطاق الأكراد السوريين. وبحسب أردوغان تستطيع هذه المنطقة استيعاب ما بين 2-3 مليون لاجئ بشكل يخلص أنقرة من صداع داخلي كبير
وتشير الكاتبة إلى أن استراتيجية تركيا في سوريا تغيرت بشكل دراماتيكي منذ بداية الحرب الأهلية هناك عام 2011. ففي تلك الفترة كانت شعبية أردوغان في ذروتها ذلك الربيع، عندما خرج السوريون إلى الشوارع ضد نظام بشار الأسد. وكانت المعارضة العلمانية التركية في حالة تراجع وكان أردوغان يريد أسلمة النظام التعليمي التركي، ولهذا وجد في النزاع عبر الحدود فرصة لتوسيع اجندته إلى الخارج. وتخلت الحكومة التركية في غضون أشهر عن حليفها وشريكها السابق بشار الأسد وبدأت تسلح الجماعات الإسلامية التي تقاتل نظامه، وتحولت تركيا إلى مركز للمعارضة السورية وممر لتيار من الجهاديين الأجانب الذين دخلوا إلى سوريا. ورغم أن أنقرة غضت الطرف عن حركة هؤلاء من وإلى سوريا إلا أنها فتحت حدودها لملايين اللاجئين السوريين الفارين من القتال وبنت معسكرات ضخمة للقادمين الجدد. ورغم كلفة اللفتة الأخلاقية إلا أنها كما قال أردوغان تعبير عن التعاطف والتضامن في وجه وحشية وجرائم الأسد. وضربت تعليقات أردوغان على وتر حساس وأسكتت المعارضة مما سمح لزيادة أعداد اللاجئين حيث وصل عددهم 3.6 مليون لاجئا. لكن القتال في سوريا لم يكن بين النظام والجماعات الإسلامية بل شمل جماعات كردية. وهو ما شكل أخبارا سيئة لأردوغان الذي خسر حزبه، العدالة والتنمية في عام 2015 غالبيته البرلمانية ولأول مرة منذ أكثر من عقد. وكان نجاح الحزب الذي يمثل الأقلية الكردية عاملا في هذه الخسارة. ومن أجل الحفاظ على السلطة تحالف أردوغان مع حزب يميني متشدد معروف بعدائه للقومية الكردية. وانتهت الجهود التي كانت تقوم بها الحكومة لعقد هدنة مع الانفصاليين في الجنوب. وبهذا تغيرت أولويات أردوغان في سوريا، وأصبح همه وقف جهود الأكراد لبناء حكم ذاتي في المنطقة التي تمتد على جنوب- شرق تركيا وشمال سوريا.
ولم تعد مسألة الإطاحة بالأسد مهمة بقدر ما كان يهم أردوغان منع ظهور كيان معاد في المنطقة القريبة من الحدود التركية. ففي حلب استخدمت تركيا المعارضة المسلحة السورية للهجوم على الأكراد مما أدى لانخفاض عدد المدافعين عن شرقي حلب وفتح المجال أمام تقدم القوات التابعة للنظام واستعادها في عام 2016. وفي ذلك العام أرسلت تركيا قواتها إلى شمال سوريا لاحتواء الجماعات الكردية العاملة هناك. وبحلول عام 2017 كان التحول عند أردوغان في سياسته السورية قد اكتمل وبدأت أنقرة بالتعامل مع نظام الأسد وحلفائه. ووافقت تركيا مع روسيا وإيران على إنشاء ما أطلق عليها بمناطق خفض التوتر والتي كان على المعارضة والنظام احترامها نظريا، أما من الناحية العملية فقد ظل النظام يخرقها وبدعم من الطيران الروسي. ومقابل هذا حرفت دمشق وحلفاؤها النظر عندما قررت تركيا في كانون الثاني (يناير) 2018 اجتياح منطقة عفرين.
وفي الوقت الذي غير الخطر الكردي أولويات اردوغان المحلية وكذا تغيرت المواقف العامة من اللاجئين السوريين. واكتشف الزعيم التركي أن سياسة الأبواب المفتوحة التي انتهجها مع اللاجئين السوريين أصبحت تهمة له. وفي انتخابات عام 2019 المحلية خسر حزبه معظم المدن الكبرى مما عد ضربة لنظام رعاية المدن الذي بنى عليه أردوغان سلطته طوال ربع قرن. وكانت الضربة الانتخابية في جزء منها مرتبطة بالتراجع الاقتصادي ولكنها تعكس السخط العام من 3.6 مليون لاجئ سوري. ويريد أردوغان الآن عودة اللاجئين إلى بلادهم. وبدأت السلطات المحلية حملة ملاحقة ومداهمة بيوت اللاجئين. وحاولت الدولة إخراج اللاجئين من المدن الرئيسية فيما أنشأت الشرطة خطا ساخنا لجمع المعلومات عن اللاجئين غير الشرعيين. وقيل إنه جرى ترحيل البعض إلى مدينة إدلب التي تشهد قتالا. ولكن إخراج وإجبار مئات الآلاف من اللاجئين السوريين على العودة إلى بلادهم التي لا تزال محور حرب يظل مهمة مستحيلة، إلا أن أردوغان كانت لديه فكرة أخرى.
وكشف عن رؤيته في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث تقوم على إنشاء منطقة عازلة بطول 300 ميلا وعمق 20 ميلا وتكون تحت السيطرة التركية وخارج نطاق الأكراد السوريين. وبحسب أردوغان تستطيع هذه المنطقة استيعاب ما بين 2-3 مليون لاجئ بشكل يخلص أنقرة من صداع داخلي كبير. وسيتم إقامة 200.000 بيت إلى جانب مستشفيات ومدارس ومساجد وملاعب وستقوم الشركات التركية ببنائها بتمويل دولي، مما سيقدم الموارد المالية للقطاع الإنشائي الذي يعاني من تراجع الاقتصاد.
لأن الاستراتيجية الأمريكية في سوريا اعتمدت بشكل كبير على الأكراد في الحرب ضد تنظيم الدولة، فإن الخطة بمثابة هبة من السماء لأعداء الولايات المتحدة (نظام الأسد وروسيا وإيران)
ويظل تأمين التمويل للمشروع مهمة مستحيلة لكن أردوغان مستعد لكي يدفع بها. ففي أيلول (سبتمبر) هدد بفتح البوابات بشكل يؤدي لأزمة لاجئين جديدة حالة ما لم يحصل على ما يريد. ومع أن الفكرة جيدة لتخليص أردوغان من صداعه إلا أنها بالتأكيد ستخلق مصاعب لغيره. فهو يخطط لتوطين ملايين العرب في مناطق كردية مما سيؤدي لتغيير الطبيعة الديمغرافية للمنطقة. وستزيد فرص التوتر بين العرب والأكراد في منطقة مستقرة نسبيا بشكل سيقود لنزوح جماعي. ولا يمكن لأردوغان أجبار اللاجئين على المغادرة حسبما ينص القانون، وسيرفض الكثيرون الرحيل طوعا حتى إلى المنطقة الآمنة.
ولأن الاستراتيجية الأمريكية في سوريا اعتمدت بشكل كبير على الأكراد في الحرب ضد تنظيم الدولة، فإن الخطة بمثابة هبة من السماء لأعداء الولايات المتحدة- نظام الأسد وروسيا وإيران التي يمكنها التفرج على العملية التي قد تجبر أمريكا على الانسحاب وتقوم بعد ذلك باحتلال المناطق وطرد تركيا. ورغم معارضة المشرعين الجمهوريين والديمقراطيين للعملية العسكرية ومسارعتهم لانتقاد قرار ترامب سحب القوات الامريكية إلا أن العملية تعني الكثير لأردوغان وهو مستعد للمخاطرة حتى في ظل عقوبات تقدم بها ليندزي غراهام، السناتور الجمهوري عن ساوث كارولينا، فما هو على المحك هو حكمه وشعبيته.
القدس العربي