بعد سنوات من الإغلاق، أعادت سوريا والعراق في الـ30 من أيلول/سبتمبر الماضي، فتح معبرهما الحدودي الرئيسي بين البوكمال والقائم، وتكتسي إعادة فتح المعبر الذي يقع في محافظة دير الزور شرقي سوريا أهميةً استراتيجيةً لإيران، وتأتي أهمية البوكمال من كونه معبر طريق طهران – البحر المتوسط، وقد استمات قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني” قاسم سليماني للسيطرة على البوكمال قبل وصول قوات التحالف الدولي إليها بعد طرد “داعش” منها عام 2017م، فما هي مخططات صانع القرار الإيراني في تلك المحافظة؟ كما يعيد إعادة فتح معبر البوكمال التساؤلات حول الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للمعبر، وانعكاسات فتحه على صراع المحاور بالمنطقة، وتحديدا بين الولايات المتحدة وإيران.
كان الجيش السوري الحر سيطر على معبر البوكمال الحدودي منتصف عام 2012، العام الذي شهد سيطرته على أغلب المعابر الحدودية مع العراق وتركيا، عقب انسحاب قوات النظام منها، وقبل الثورة السورية التي بدأت في آذار/مارس عام 2011، كان هناك ثلاثة معابر رئيسية بين العراق وسورية، هي البوكمال ـ القائم، ومعبر اليعربية الذي يقابله ربيعة في الجانب العراقي، والذي تبادل الجيش السوري الحر السيطرة عليه مع قوات النظام خلال عام 2012، قبل أن يحاول تنظيم “داعش” السيطرة عليه خلال عامي 2013 و2014، إلا أنه فشل في ذلك، فسيطرت عليه فصائل كردية في أكتوبر/تشرين الأول 2014، ولا يزال خاضعاً لها حتى الآن، والمعبر الثالث هو التنف الذي يقابله الوليد في الجانب العراقي، والذي سيطر عليه تنظيم “داعش” منتصف عام 2015 بعد انسحاب قوات النظام منه، إلا أن الجيش السوري الحر سيطر عليه في مارس/ آذار 2016، ليتحول بعد ذلك إلى قاعدة عسكرية للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، والمعبر كان رئيسياً بين العراق وسورية وكان يشهد حركة تجارية نشطة قبل عام 2011.
وتحتل ميليشيات إيرانية مدينة البوكمال وريفها منذ أواخر عام 2017 عقب القضاء على تنظيم “داعش” الذي ظل مسيطراً على المنطقة سنوات، مع إزالته الساتر الترابي بين البلدين في ذروة اندفاعه في عامي 2014 و2015، في المقابل تسيطر فصائل “الحشد الشعبي” العراقية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني على معبر القائم منذ أواخر عام 2017 إثر القضاء على تنظيم “داعش” في المنطقة الحدودية بين سورية والعراق، ولا تقتصر سيطرة الميليشيات الإيرانية في سورية على مدينة البوكمال وريفها فقط، إذ يسيطر حزب الله ومليشيات “حيدريون” و”فاطميون” و”زينبيون” على مدينة الميادين، غربي البوكمال، وكلتا المدينتين تقعان على الضفة الجنوبية من نهر الفرات الذي يقطع محافظة دير الزور إلى نصفين، تسيطر “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) على جزئه الشمالي في مقابل سيطرة الميليشيات الإيرانية وقوات النظام التي تسيطر على مدينة دير الزور مركز المحافظة، في الجزء الجنوبي.
وفي الوقت نفسه، تقوم إيران ببناء قاعدتين عسكريتين جديدتين في المنطقة: إحداهما في الضواحي الغربية لمدينة الميادين، والأخرى أكبر حجماً في البوكمال أُطلق عليها اسم “الإمام علي”، ويتمّ بناء القاعدتين بالتعاون مع “جهاد البناء” و”منظمة الإمام الحسين”، وهما مؤسستان ترعاهما إيران ولهما فروع في مدن دير الزور، الميادين، والبوكمال، وستعزز هاتين المنشأتين هدف طهران المتمثل في السيطرة على طريق استراتيجي رئيسي: من البوكمال شمالاً إلى محطة ضخ النفط في الميادين “تي-2″، ومن ثم غرباً إلى التياس التي تضّم محطة الضخ/القاعدة الجوية السورية “تي-4″، وأخيراً إلى سهل البقاع في لبنان، المعقل الرئيس لـ «حزب الله»، وقامت جهات أجنبية مختلفة بشن غارات جوية على أجزاء من هذا الطريق، لكنّ قوات «الحرس الثوري» الإيراني ووكلائها قلصت من تعرّضها لمثل هذه العمليات من خلال الاختباء داخل منازل المدنيين، وقدمت إيران التمويل اللازم لإعادة تأهيل معبر البوكمال، وطردت العناصر التابعين للنظام في 27 يوليو/تموز الماضي، ولم يعد هناك اليوم أي وجود للنظام، وباتت السيطرة على المعبر إيرانية بالكامل.
وعلى الرغم من أن الميليشيات الشيعية في دير الزور تضم فصائل أفغانية وباكستانية، إلا أنّ «قوات الحشد الشعبي» العراقية هي بمثابة القناة المالية الرئيسية لإيران في المحافظة، ولا سيما في البوكمال، وتختلف الرواتب وأساليب توزيعها بحسب جنسية المجند، على سبيل المثال، يتقاضى المقاتلون العراقيون في سوريا حوالي 400 دولار شهرياً عبر بطاقات “ماستر كارد” تُعطى لهم من قبل «الحشد الشعبي»، أما المقاتلون من جنسيات أخرى، فيتقاضون أموالهم نقداً وشخصياً، وغالباً ما يتمّ سحبها من مصارف خاضعة لإدارة «قوات الحشد الشعبي» في العراق – في انتهاك محتمل لسياسة العقوبات الأمريكية.
أما بالنسبة للمجندين السوريين المحليين، فيتم دفع رواتبهم مباشرة من قبل «الحرس الثوري» بمبالغ تعتمد على المهام الفردية الموكلة لهم، فأولئك الذين يخدمون في مدنهم وقراهم يحصلون على 100 دولار شهرياً، في حين يحصل الذين يتوجهون إلى الخطوط الأمامية على 150 دولاراً، بالإضافة إلى الآليات العسكرية وقسائم الوقود والأموال المخصصة لمصاريف متنوعة، ووفقاً لشخصيات محلية مناهضة للنظام، فإن هذه الممارسات المالية لـ «الحرس الثوري» المنظمة جيداً تفوق بكثير الهيكلية الأمنية “الفوضوية والمفلسة” لنظام الأسد، وعلى غرار ما حدث عندما سيطر تنظيم «داعش الإرهابي» على المنطقة، تستقطب الحوافز المالية لـ «الحرس الثوري» الرجال السوريين العاطلين عن العمل والفقراء، وكذلك المقاتلين الأجانب.
بالإضافة إلى ذلك، يُضمن للمجندين الشيعة وعائلاتهم السكن في العقارات التي يشتريها ويديرها رجال أعمال إيرانيون، ومنذ تشرين الثاني/نوفمبر 2018، استقرت أكثر من مئة عائلة شيعية أجنبية في الأحياء الجنوبية للميادين، وعدد مماثل من العائلات الشيعية العراقية في البوكمال، وقد ازدادت هذه الأعداد بلا شك منذ ذلك الحين.
ومن الواضح أن الاستراتيجية الإسرائيلية والأميركية في الشرق السوري تتمحور حول عدم إتاحة الفرصة للإيرانيين لتثبيت أقدامهم العسكرية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، لخلق وقائع على الأرض من الصعب تجاوزها في أية تسوية مقبلة للقضية السورية، ويرى المتابعون للشأن السوري أنه “من الناحية التقنية لا يضيف افتتاح المعبر جديداً لعمليات نقل القوات (الميليشيات العراقية والإيرانية) ومعداتها العسكرية”، موضحين أن هذه الميليشيات “تستخدم معابر أخرى عسكرية على طول الحدود للتنقل بين البلدين وعمليات التهريب”، ويعتقدون أن “الافتتاح له رسائل سياسية”، مضيفين: الإعلان عن افتتاح المعبر بدعم إيراني يحمل رسالة للولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين استهدفتا المنطقة بغارات جوية عدة في أوقات متفرقة، بأن إيران ماضية بمشروعها في سورية، فضلاً عن كونها رسالة سياسية داعمة لنظام الأسد في محاولات تعويمه مجدداً في المحيط العربي.
ويتغلغل «الحرس الثوري» الإيراني و «الحشد الشعبي» في النسيج الاجتماعي لغالبية السكان العرب السنّة في محافظة دير الزور، من خلال مجموعة متنوعة من الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذي يساعد هذه القوات على فرض مذهب الشيعة الاثني عشرية على السكان المحليين الذين يعانون من ضائقة مالية.
على سبيل المثال، بمباركة نظام الأسد، يُرغم “المركز الثقافي الإيراني” في مدينة دير الزور بشكل أساسي طلاب المدارس والجامعات على المشاركة في الفعاليات التي ينظمها المركز، كما أمر «اتحاد شبيبة الثورة» التابع لحزب البعث الخاضع للنظام مديرية التعليم المحلية بتنظيم رحلات ميدانية لحضور الاحتفالات الدينية الشيعية ومحاضرات «الحرس الثوري» الإيراني وفعاليات كتابة قصص قصيرة ومسابقات رياضية، وفي المقابل، يكسب الطلاب أرصدة ومساعدات مالية إضافية.
وبالمثل، يتمّ الإعلان بشكل كبير عن المنح الدراسية للدراسة في الخارج والتي تستهدف الطلاب المهتمين بمتابعة الدراسات الدينية والعودة إلى سوريا كدعاة مبشرين بمذهب الإثني عشرية، وتخصص المنح الدراسية للفئات العمرية بدءاً من أطفال المدارس الابتدائية، وصولاً إلى الطلاب الذين هم في الثلاثينيات من العمر، وقد سبق لحوالي مئة طالب من دير الزور أن سافروا إلى إيران للالتحاق بهذا البرنامج (الصغار برفقة أولياء أمورهم)، بالإضافة إلى ذلك، يدير أساتذة إيرانيون ثلاث مدارس في الميادين والبوكمال ومدينة دير الزور، حيث يدّرسون اللغة الفارسية والتاريخ إلى جانب مواد أخرى، وتفيد بعض التقارير عن التحاق نحو مئتي طالب بهذه المدارس.
وتؤدي بعض القبائل المحلية في دير الزور دوراً رئيسياً في تطبيق هذه الأجندة الإيرانية، ففي مناطق مثل صبيخان والميادين، أمر «الحرس الثوري» الإيراني شيوخ القبائل بدعوة السكان لحضور فعاليات تنظم في حسينية شيعية حيث يتمّ توزيع الجوائز والمساعدات على الأيتام والنساء وعوائل الشهداء، وتشير المصادر المحلية أيضاً إلى أن الشيخ نواف البشير من قبيلة “البقارة” يدير ميليشيا تدعمها إيران في المحيميدة، وبالمثل، يُعتبر صالح محمد إسماعيل البعاج، أحد المسؤولين في قبيلة “البعاجين” في الميادين، حليف طهران الرئيسي في نشر مذهب الاثني عشرية بالتعاون مع “المركز الثقافي الإيراني” في دمشق، هذا بالإضافة إلى دوره كمستشار ديني لـ «لواء أبو الفضل العباس»، وهو وحدة ميليشيا موالية للأسد تتألف من مقاتلين عراقيين ولبنانيين.
وأصبحت “العصا” في نهج “العصا والجزرة” هذا واضحة أيضاً، ففي العام الماضي، على سبيل المثال، ألقت السلطات السورية القبض على عشرين من أئمة السنة من صبيخان والميادين والبوكمال وغيرها من المدن لرفضهم الدعوة إلى الصلاة بأسلوب شيعي، وفي المقابل، تلقّى الأئمة الذين لبّوا النداء زيادةً في الأجور.
وتم تعزيز مركز دير الزور في تحقيق الأهداف الدينية والإستراتيجية لإيران في تموز/يوليو الماضي، عندما زار قائد «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري» قاسم سليماني مدينة البوكمال شخصياً، وهناك التقى مع قادة ميليشيات من أجل تأسيس وحدة جديدة تحت اسم «لواء حراس المقامات»، التي ستُكلَّف بالدفاع عن المقامات الشيعية التي بنيت مؤخراً في دير الزور، ومن خلال بناء مقامات شيعية جديدة في مواقع مقدسة قديمة أو على مقربة منها كان قد سبق لسلالات سنية أن أسستها، يسعى «الحرس الثوري» إلى تشكيل شرعية دينية محلية، وسوف تتماشى هذه المهمة بشكل جيد مع العديد من المنظمات الإنسانية التي أنشأتها إيران في المحافظة، والتي تُعرِّف السكان المحليين على العقائد الشيعية أثناء توزيع المساعدات عليهم.
خلاصة القول.. يعد افتتاح المعبر تتويجاً لمساعٍ إيرانية حثيثة للسيطرة الكاملة على الشرق السوري، وخطوة واسعة باتجاه ترسيخ نفوذها في شرقي سورية، من خلال افتتاح معبر البوكمال السوري ـ معبر القائم العراقي، في منطقة تخضع بالكامل لميليشيات تابعة للحرس الثوري الإيراني، من المرجح أن يكون بوابة عسكرية إيرانية إلى سورية أكثر من كونه معبراً تجارياً، لطالما سعت إيران إلى تكريس ممر بري طويل، يبدأ من أراضيها وينتهي بلبنان، مروراً بالعراق وسورية، ويبدو أن المعبر يعد اللبنة الرئيسية في هذا المشروع الذي يحاول الجانبان الإسرائيلي والأميركي تقويضه، من خلال شن هجمات جوية على مواقع تمركز الميليشيات الإيرانية في ريف دير الزور الشرقي.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية