حسب تقرير منظمة “الشفافية الدولية للعام 2018، حلّ العراق في المرتبة 168، بعلامة 18 من 100؛ تأتي بعدها، بين الدول العربية، ليبيا في المرتبة 170، والسودان 172، واليمن 176، وسوريا 178، والصومال (في المرتبة الأخيرة) 180. في المقابل، قد يكون مفيداً أن يعرف المرء مرتبة إيران: 138، بعلامة 28؛ الأمر الذي يمكن أن يقود إلى الخلاصة المنطقية التالية: كيف يمكن أن تكون إيران أقلّ فساداً من العراق بـ30 علامة، لكن أنصارها ورجالاتها من ساسة العراق ومسؤوليه هم المادّة الأبرز لحركات الاحتجاج الشعبية الأخيرة التي بدأت من بغداد وانتقلت كالنار في الهشيم إلى قلب المناطق ذات الأغلبية الشيعية؟ في عبارة أخرى، إذا صحت الاتهامات ضدّ الفاسدين من هذه الفئة تحديداً، التي يربطها الشارع الشعبي بإيران مباشرة، فهل يجوز القول إنّ إيران مفسِدة للعراق، بمعدلات تفوق فساد الساسة الإيرانيين أنفسهم؟
يُثار، أيضاً، سؤال آخر يتصل بقوانين مكافحة الفساد التي اعتمدها رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي، وما إذا كانت قد بقيت حبراً على ورق؛ بفعل قوانين أخرى أشدّ منها سطوة وتجذراً، تخصّ تقاسم الحصص السياسية والحزبية والمذهبية والمناطقية، ليس في مختلف مؤسسات الدولة وحدها، بل في قلب الجيش والأجهزة الأمنية أيضاً. وكيف لا تُقام علاقة وثيقة بين أهازيج 2015 و2016، على شاكلة “جينا على الدخل نحسب الخرجية/ صفر ناقص صفر فارغة البسطية/ باسم الدين باكَونا (سرقونا) الحرامية”؛ وأهازيج 2019، التي سار بعضها هكذا: “والله والله والله فضحتونا/ بس بوكَ (سرقة) وصراعات/ ضد شعب الحضارات/ صار البلد صومالي والتحكّم أجانب”.
وكما كانت التظاهرات الشعبية للعام 2015 قد وضعت العبادي في موقع بالغ الحرج أمام ضرورة الذهاب أبعد في الإصلاح والمحاسبة، فإنّ تظاهرات 2019 تضع رئيس الوزراء العراقي الحالي عادل عبد المهدي أمام ضرورات أكثر تبلوراً من حيث طبيعة المطالب، وأعلى صوتاً من حيث ربط العطب الداخلي بأجندات ولاء خارجية تأتي إيران في صدارتها. هذا مآل طبيعي، قد يقول قائل، في ضوء انحدار السياسة والسياسيين إلى مستويات رثّة في التمثيل والأداء تغذّي المزيد من عوامل انحدار أكبر؛ مع فارق مأساوي، ودامٍ أيضاً، هو أنّ 105 من العراقيين سقطوا قتلى حتى الساعة، في صفوف المتظاهرين ورجال الأمن.
فارق آخر، قد تنجلي أبعاده تدريجياً في الأيام المقبلة، هو موقف المرجعية الشيعية العليا التي اعتادت الوقوف في صفّ المحتجين وتأييد مطالبهم المشروعة، ولكنها الآن تضيف إلى هذا الخيار الكلاسيكي واجب حثّ عبد المهدي على كشف هوية المسؤولين عن قتل المتظاهرين؛ ليس لإحقاق الحق ومحاسبة الجناة فقط، بل كذلك لتنزيه عناصر إيرانية، وبينهم رجال دين، عن تهمة المشاركة في قمع التظاهرات والتورط في أعمال القتل. وأمّا الفارق الثالث، في هذا الصدد تحديداً، فإنه غياب جهة قيادية واضحة توحّد المطالب وتسيّر التظاهرات، على نقيض احتجاجات 2016 التي وضعت مقتدى الصدر في سدّة الزعامة.
هذه، طبقاً لمؤشرات عديدة راهنة وكامنة، هي الجولة الأخطر في مسلسل المواجهات بين الشارع الشعبي والحكومات العراقية المتعاقبة، وثمة الكثير من التعاقدات التي انهارت وكانت السلطات المختلفة، السياسية والروحية، تظنها خالدة لا تحول ولا تزول؛ وفي رأسها، غني عن القول، مكانة إيران في قلوب فقراء الشيعة من أبناء العراق. ولن يكون غريباً أن يرتد زخم هذه الانتفاضة المصغّرة إلى 16 سنة خلت حين اجتاحت الولايات المتحدة هذا البلد وثبتت نفوذ فئة حاكمة فاسدة مفسدة؛ قبل أن تستلم طهران زمام الأمور، فتتابع نهجاً مماثلاً في الجوهر ومختلفاً في الأعراف.
وتبقى، بالطبع، حكاية “المندسين” التي لا يرفعها عبد المهدي وحده الآن، بل يشاطره في اعتناقها رئيس هيئة “الحشد الشعبي”، رغم أنها باتت أقلّ بكثير من ورقة توت مهلهلة مهترئة.
القدس العربي