لم يكن قرار الرئيس الأمريكي ترامب بالانسحاب من سوريا، وسعيه من أجل ترميم العلاقة مع تركيا بالأمر المفاجئ بالنسبة إلى المتابعين لسياسات ترامب، والمطلعين على كيفية تعامل القوى الكبرى، خاصة في المرحلة الراهنة، مع مختلف الموضوعات؛ فالمصالح العارية هي التي تحدد التوجهات، وتتحكّم في عملية بناء التحالفات المرحلية، وتجاوزها نحو تحالفات أخرى، تكون أكثر جدوى، وفق الحسابات الاستراتيجية للقوى المعنية.
فما كان من تحالف بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين قوات قسد، التابعة عملياً لحزب العمال الكردستاني؛ أو بتعبير أدق، ما سوّق على أنه تحالف؛ لم يتجاوز في واقع الأمر حدود تنسيق استخباراتي عسكري، وتحكّم من جانب الأمريكان بتلك القوات الكبيرة من جهة العدد عبر مجموعة صغيرة نسبياً من المستشارين والجنود.
وقد كان موضوع التدخل التركي في منطقة شرقي الفرات مثار شد وجذب بين الجانبين الأمريكي والتركي منذ سنوات. ويبدو أن الإدارة الأمريكية منذ عهد أوباما قد قررت التحالف مع الحزب المعني، أو بكلام آخر أقرب إلى حقيقة الأمور، قد قررت الاعتماد على القوى العسكرية لـ ب. ي. د. التي كانت تُعرف سابقا بقوات حماية الشعب، وتعرف حالياً باسم قسد (قوات سوريا الديمقراطية)، ليكون ذلك وسيلة للضغط على الجانب التركي، وذلك من أجل فرض شروط عليها لها علاقة بالترتيبات المستقبلية لأوضاع المنطقة، والمعادلات التوازنية التي ستفعّل بموجب الحسابات الأمريكية.
ونحن إذا عدنا إلى النقلة التي قفز بموجبها حزب العمال الكردستاني، الذي يقود فعلياً القوات التي يدور حولها الحديث هنا، من تحالفه مع النظام والروس إلى التحالف مع الأمريكان، سنرى أن التحالف الجديد لم يكن بعيداً عن التفاهم الأمريكي الروسي منذ البدايات، هذا رغم التباينات والخلافات الظاهرة، وتلك التي يعبر عنها كل جانب في مختلف المناسبات.
فالحزب المقصود هنا، كان في منطقة عفرين منسقاً متفاهما مع الروس. وفي منطقتي الجزيرة وكوباني/ عين العرب كان متحالفاً مع الأمريكان في قتال داعش وليس النظام. ولم يكن موضوع اخراج قوات النظام وأجهزة مخابراته من منطقة الجزيرة في يوم من الأيام أولوية بالنسبة إلى هذا الحزب، ولا بالنسبة إلى الأمريكان أنفسهم. بل على العكس من ذلك، تعايش الجميع معاً، وتبادلوا الأدوار والمهام في مختلف الميادين.
أما تركيا، فقد حاولت بداية الأمر احتواء وجود حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا “ب. ي. د” وفتحت معه قنوات الاتصال، بعد أن كانت قد دخلت في مفاوضات مع حزب العمال الكردستاني نفسه. ولكن بعد اخفاق تلك المفاوضات، بدأت تحتج لدى الجانب الأمريكي، الذي كان قد فتح القنوات لتوه مع الحزب المعني، وبدأ بتزويده بالأسلحة والأموال، خاصة بعد معارك كوباني التي كانت بين التنظيم المذكور وداعش، في حين أن الموقف التركي كان وقتها مترددا، رغم التوافق الذي حصل لاحقاً، وكانت حصيلته دخول قوات البيشمركه من كردستان العراق عبر تركيا إلى مدينة كوباني، من أجل دعم المقاتلين فيها ضد داعش.
وهكذا تطورت العلاقة بين الجانبين الأمريكي وحزب الاتحاد الديمقراطي، ولكن العلاقة كانت دائمة في المستوى الأمني العسكري، ولم تكن هناك أية اتفاقيات أو التزامات سياسية.
وجاءت معركة الرقة التي قرر فيها الجانب الأمريكي الاعتماد على الحزب المذكور، رغم المعارضة الشديدة من جانب تركيا، وإبدائها الاستعداد للإسهام في تلك المعركة، ولكن شرط استعباد “ب. ي. د” عن الموضوع، وهو الأمر الذي رفضه الأمريكان، مما أدى إلى اضطراب في العلاقات الأمريكية التركية؛ حتى أن الولايات المتحدة رفضت بيع تركيا منظومة صواريخ باتريوت، بل سحبت تلك التي كانت قد نصبتها على أراضيها. هذا في حين أن تركيا كانت تعاني من أزمة عميقة مع الروس بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية، وكانت العلاقات مع إسرائيل هي الأخرى متأزمة. ولكن مع تباعد المواقف بين تركيا وحليفاتها الأطلسيات، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، لاذت تركيا بالانفتاح على الروس في الوقت ذاته؛ وباتت ركناً أساسياً من أركان مسار أستانا الذي جمع بينها وبين الروس والإيرانيين. وقد تمكنت بفعل التفاهم مع الروس، وضوء أخضر أمريكي من الدخول إلى منطقة جرابلس واعزاز، ومن ثم دخلت إلى عفرين. ولكنها كانت دائماً تؤكد أنها ستبذل كل المساعي من أجل الدخول إلى منطقة شرقي الفرات لإخراج حزب الاتحاد الديمقراطي من هناك، وهو الأمر الذي كان الأمريكان يعارضونه باستمرار، رغم وجود اشارات كانت توحي باستعداد ترامب وأركان من إدارته، رغم رفض آخرين، بالتعامل الإيجابي مع المطلب التركي.
وقد تفاجأ العالم بقرار ترامب بعد إعلانه القضاء على تنظيم داعش في سوريا، إذ اتخذ قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا، وهو الأمر الذي أثار موجة من التنديدات ضمن الإدارة الأمريكية نفسها، وإلى استقالة العديد من المسؤولين فيها؛ مما دفع بترامب إلى مراجعة قراره وتعليقه، ولكن من دون إلغائه. وفي الأثناء تواصلت المباحثات والمشاورات بين الجانبين الأمريكي والتركي. ومعها التهديدات التركية المستمرة بدخول المنطقة، هذا مع معرفة الجميع بأن خطوة من هذا القبيل لن تكون من دون الحصول على ضوء أخضر أمريكي، وهو الضوء الذي أعطاه ترامب بتغريداته وتصريحاته المبهمة المتناقضة مؤخراً؛ الأمر الذي يعزز انطباعاً مفاده بأنه ليس من المستبعد أن تكون الخطوة الأمريكية متكاملة مع خطوة أخرى، يكون قد الاتفاق عليها مع الروس.
المتضرر الأكبر من كل ما جرى ويجري في منطقة شرقي الفرات والجزيرة السورية هم الكرد السوريون من دون غيرهم. فقد سيطر الحزب الديمقراطي على مناطقهم بتفويض تام من النظام، وتنسيق كامل معه منذ اليوم الأول للثورة السورية. وتسبّب هذا الأمر في هجرة نحو مليون كردي نتيجة ممارسة الحزب المذكور الشاذة، مثل التجنيد الإجباري الذي فرض على الشباب؛ وإلحاق أسوأ الكوارث بالعملية التعليمية؛ هذا إلى جانب قمع الحزب المعني للحريات، وتجسد ذلك في اعتقال المنتقدين والمنافسين المحتملين، وتصفيتهم وترحيلهم، بل وصل الأمر ببعض قادته إلى الإعلان صراحة بأن من لا يقبلون بسياساتهم عليهم أن يرحلوا. واستمرت الأمور هكذا، حتى جاء الأمريكي الذي تعامل مع القوات العسكرية التابعة للحزب المعني كما يتعامل مع أية شركة أمنية تؤجر القوات للمهام الخاصة.
وكان من الواضح دائماً أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح بخروج تركيا من منظومتها التحالفية، لتغدو جزءاً من تحالف روسي إيراني، وربما صيني، الأمر الذي من شأنه تهديد المصالح والحسابات الأمريكية في منطقتنا، ومناطق أخرى في العالم. فالقوى العظمى تعطي الاعتبار الأكبر في نهاية المطاف للمصالح كما أسلفنا، ولا تقيم أي وزن مؤثر لموضوع القيم والمبادئ والالتزامات الأخلاقية، خاصة في عصرنا الشعبوي هذا؛ وهي لا تخشى في ذلك لومة لائم، ولا تشعر بأي حرج أو خجل.
أما بالنسبة إلى حزب العمال الكردستاني، فهو أمام عدة خيارات: إما العودة إلى تفاهمه وتنسيقه مع النظام السوري؛ أو سحب كوادره إلى مواقعهم في جبل قنديل، انتظاراً لمهمات أخرى. أما الاحتمال الثالث، وهو الأنجع، فهو الدخول في مفاوضات مع الدولة التركية للوصول إلى حل سلمي لمختلف النقاط المختلف حولها، ويمكن للولايات المتحدة أن تتوسط في هذا المجال، وتدفع بالأمور نحو هذا المنحى، إذا كانت تفكر في مصلحة حليفتها تركيا والكرد، ومصلحة الاستقرار في المنطقة.
أما الكرد السوريون، فهم الحلقة الأضعف أصلاً في المجتمع السوري نتيجة عقود من الاضطهاد والتهميش؛ وجولات من استغلال حزب العمال الكردستاني لهم، واستنزافه لمواردهم الاقتصادية الضحلة من الأساس، وتسبب في مقتل الآلاف من شبابهم، وتهجير مئات الآلاف. الكرد السوريون هم في وضع لا يحسدون عليه، وقد دفعوا ثمناً باهظاً في معارك لا تخصهم، بل كانوا مجرد مادة وأداة في مشاريع الآخرين. وما ينتظرهم في قادم الأيام ليس واضحاً بعد، ولكن الخطوة الأهم التي ستخفّف الضغط عنهم بعض الشيء تتمثل في ضرورة فك الارتباط بين الـ “ب. ي. د” وحزب العمال، ليغدو الأول حزب سورياً، وبأجندة سورية كردية.
ما نحتاجه اليوم على المستوى السوري الوطني العام، وعلى مستوى منطقة الجزيرة بصورة خاصة، هو الحد من ديماغوجية خطاب الحقد والكراهية الذي يتبناه أصحاب العقلية الانتقامية المتطرفة، سواء بين العرب أم الكرد، وذلك للمحافظة على السلم المجتمعي المحلي في الجزيرة، هذا المجتمع الذي يعد النواة الضامنة للسلم الوطني السوري العالم.
كما أن الحوار التركي الكردي الداخلي مطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى، وذلك من أجل إيجاد الحلول الإبداعية لمختلف المشكلات المعلقة. ومن دون مثل هذا الحوار ستظل الأرضية خصبة لكل أولئك الذين لا تهمهم مصلحة الطرفين (التركي والكردي)، ويسعون لمغازلة المتطرفين هنا وهناك، وتشجيعهم ودعمهم بهدف المزيد من عدم الاستقرار واستنزاف الطاقات.
القدس العربي