فوضى السياسة الأميركية سورياً: فصل من إرث ترامب بالشرق الأوسط

فوضى السياسة الأميركية سورياً: فصل من إرث ترامب بالشرق الأوسط

حين يُكتب تاريخُ رئاسة دونالد ترامب المضطربة، ستكون هناك محطتان في عنوان سياسته الخارجية في الشرق الأوسط: التراجع أمام طهران بعد إسقاط الطائرة الأميركية المُسيرة فوق مضيق هرمز في يونيو/ حزيران الماضي، والتراجع أمام التوغل التركي في شمال سورية، في انتحارٍ علني للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط. في المحطة الأولى، استقال ترامب من مهمة الدفاع عن حلفائه في الخليج، وفي الثانية تخلى عن الحلفاء الأكراد.
تحت ضغط العملية التركية، قرّرت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) المسارعة في سحب ألف جندي من شمال سورية، بعد التشاور مع البيت الأبيض. الأكراد يتجهون إلى صفقةٍ مع روسيا والنظام السوري، فيما لم تعد حراسة معتقلي تنظيم “داعش” أولوية بالنسبة لهم.

وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر أعلن، أول من أمس الأحد، عن “انسحابٍ متعمد” من سورية نتيجة هذه العوامل، لأن القوات الأميركية أصبحت بين النارين التركية والروسية في وضعٍ ميداني “لا يمكن الدفاع عنه”. لكن هذا التراجع لا يعني سحب كل القوات الأميركية من سورية، إذ تشير أحدث التصريحات الأميركية إلى الإبقاء على العسكريين الأميركيين الموجودين في قاعدة التنف في جنوب سورية والتي تضم نحو 150 عسكرياً أميركياً. ويحدث ذلك في وقتٍ أصبح هناك 14 ألف جندي أميركي في منطقة الخليج في مهمة دفاعية صعبة لردع إيران من دون إطلاق النار عليها.

هذا الموقف الأميركي العلني تقابله تسريباتٌ من مسؤولين في واشنطن تعكس مدى تخبط وإحباط وزارتي الدفاع والخارجية من قرارات ترامب. بالنسبة إليهم، كلُّ مكاسب الحرب الأميركية ضد تنظيم “داعش” انتهت الى غير رجعة، وعلى الأرجح سيعود هؤلاء إلى ميدان القتال أو يهربون إلى بلدان أخرى كـ”ذئاب منفردة” قد تقوم بعمليات فردية مع مرور الوقت.

يسرب مسؤولون في واشنطن معلومات حول مدى تخبط وإحباط وزارتي الدفاع والخارجية من قرارات ترامب السورية

وسط هذا التخبط، أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أمس الإثنين، أن “عقوباتٍ صارمة” ضد تركيا يمكن أن تصدر قريباً رداً على عمليتها العسكرية في شمال سورية. وقال ترامب في تغريدة: “عقوبات صارمة ضد تركيا قادمة!”، من دون مزيد من التفاصيل. وحذر الرئيس الأميركي من إمكانية أن تطلق القوات الكردية عمداً سراح متشددين محتجزين من “داعش” لدفع القوات الأميركية إلى العودة للمنطقة، مضيفاً أنه “من السهل للغاية أن تعيد تركيا أو الدول الأوروبية التي يتحدر منها الكثيرون احتجازهم، لكن ينبغي لهم التحرك بسرعة”. من جهته، أكد وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين من البيت الأبيض لاحقاً أنه “من الواضح أن الأوان لم يفت بعد لفرض الولايات المتحدة عقوبات على تركيا”، لكنه لفت إلى أن “الوضع معقد”، مذكراً بأن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي.

السباق الآن بين التطورات الميدانية في سورية والحراك السياسي في واشنطن، أي بين تقدم العملية البرّية التركية وسرعة وصول النظام السوري بدعم روسيا إلى المناطق الحدودية الكردية لاستلامها، ومدى قدرة وسرعة الجمهوريين في الكونغرس بالضغط على الرئيس لإعلان عقوبات على الاقتصاد التركي للتأثير على حسابات تركيا في سورية.

وفي ظلّ دعم قاعدته الشعبية لقرار الانسحاب من الشرق الأوسط، يواجه ترامب أيضاً ضغطاً من الإنجيليين حول انسحابه من سورية. وقد وصف أحد رموز الحركة الإنجيلية، بات روبنسون، الرئيس الاميركي بأنه “رجل الله لهذه المهمة”، وبأنه “في خطر فقدان ولاية السماء” إذا سمح بـ”أكبر الأخطاء في التاريخ الدبلوماسي”.

مسؤولٌ أميركي كبير قال لصحيفة “واشنطن بوست” إن أنقرة تراجعت عن ضماناتها بعدم تعريض القوات الأميركية للخطر، وإن “الجيش السوري الحر مجنون، ولا يمكن الاعتماد عليه”، في محاولة لتبرير سرعة الانسحاب الأميركي. وأضاف المسؤول الذي فضّل عدم الكشف عن هويته “لا نريد الروس والإيرانيين هناك (شمال سورية)، لكن طبعاً نفهم لماذا فعلوا ذلك”، في ما يكاد يكون استسلاماً أميركياً أمام من يحاول اقتطاع الأراضي الموجودة تحت النفوذ الأميركي في سورية. بعد انتهاء سحب القوات الأميركية في غضون 30 يوماً، ستبقي واشنطن 150 جندياً في قاعدة التنف الاستراتيجية، ولا تُستبعد محاولة روسيا ترهيب هؤلاء الجنود لإجلائهم أيضاً من قبل إدارة ترامب.


يجري سباق اليوم بين التطورات الميدانية في سورية والحراك السياسي في واشنطن

نهاية الأسبوع الماضي، ترك الرئيس الأميركي إدارته تتخبط في الأزمة السورية لاستراحة في منتجع للغولف يملكه في فيرجينيا. الأسبوع الحالي حاسم لتحديد السياسة الأميركية في سورية. ترامب سيلتقي وزير الخارجية مايك بومبيو ووزير الدفاع مارك إسبر، كما سيكون إعلان مشترك بين الديمقراطيين والجمهوريين في مجلس الشيوخ لحزمة من العقوبات الأميركية على تركيا، وسيضعون البيت الأبيض أمام خيارين، إما استباق هذه الخطوة بفرض عقوبات فورية أو انتظار أن يصل القانون إلى مكتبه لفرض فيتو عليه.

مشروع القرار الذي سيعلن عنه كل من السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام والسيناتور الديمقراطي كريس فان هولين، يشمل تجميد الأصول الأميركية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووضع قيود على تأشيرة دخول المسؤولين الأتراك إلى الولايات المتحدة وفرض عقوبات على كل من يدعم الجيش التركي، حتى تثبت إدارة ترامب أن القوات التركية انسحبت من الشمال السوري. حين أعلن عن الانسحاب الأميركي من سورية نهاية العام الماضي، كان هناك إجماعٌ بين الديمقراطيين والجمهوريين في مجلس الشيوخ على تمرير قرار بأغلبية تتجاوز الفيتو الرئاسي، وبالتالي اضطر البيت الأبيض حينها لوضع خطة الانسحاب على الرف. الموضوع السوري هو أكثر قضية كان فيها استعداد جمهوري في الكونغرس لتحدي الرئيس، وما سيحدث هذا الأسبوع في “الكابيتول هيل” هو استمرار لهذا النهج، لكن قد تكون هذه الخطوة التشريعية متأخرة في ضوء تسارع التطورات الميدانية في سورية.

ترامب لا يريد مواجهة الديمقراطيين حول مسألة عزله، أو مواجهة الجمهوريين حول الانسحاب من سورية، كما لا يريد التخلي عن مطلبٍ رئيسي لحملته الانتخابية عام 2016. مهما حصل هذا الأسبوع، سيتردد صدى الضرر على المصالح الأميركية نتيجة قرارات ترامب لوقتٍ طويل في سورية والشرق الأوسط.

العربي الجديد