عكست سياسات وتوجهات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ توليه الحكم في بلاده سعيه الحثيث إلى إحياء الإمبراطورية العثمانية، على الرغم من محاولات التخفي تحت عناوين مختلفة، لكن سياسته التوسعية على حساب دول الجوار الإقليمي من ذلك العراق وسوريا، وتعمّده التعامل مع شعوبها التي كانت تحت السيطرة العثمانية، على أنها تابعة، وخطاباته الحادة تجاه منتقديه، تكشف كلها بوضوح عن رغبة ملحة في شغل منصب “السلطان الجديد”. هذه العناصر مجتمعة تغلغلت في شعور الفرد التركي بالاستعلاء والاستعداء لباقي القوميات الأخرى في الإقليم، ما جعل النموذج الإخواني التركي يتماهى مع نظيره الولائي الإيراني سلوكا ومنهجا وأهدافا، في مسعى إلى تفكيك الجغرافيا العربية وترويج لهرطقات الحاكمية الإلهية باستعادة تاريخ استعماري وثقافة غزو إمبراطوري، وجب التصدي لها.
كان سليمان شاه الأصل الذي بدأ منه العثمانيون الأتراك، وبعدها انقسم الأتراك إلى مَن ظل يعيش بتركستان حيث آسيا الوسطى وقسم آخر نزح إلى الأناضول، وهناك عُرف الشق الآخر بالعثمانيين نسبة إلى عثمان بن أرطغرل، وظل هؤلاء تبعا للحكم السلجوقي، أي سلاجقة الروم، حيث المناطق التي استولى عليها السلاجقة من الدولة البيزنطية، والعثمانيون ليسوا قومية إنما شأن التسمية شأن الأمويين والعباسيين، فالأصول من أواسط آسيا، وتم النزوح هربا من تقدم المغول، حين ضعفت الخلافة العباسية وانتهت السلطنة السلجوقية، فتوزعت المناطق إلى إمارات، ومنها إمارة حكمها العثمانيون، ثم توافرت الظروف واستطاع العثمانيون، الذين كانوا يسكنون أدرنة قريبا من القسطنطينية، فاحتلوها في عهد محمد الثاني الذي عُرف بمحمد الفاتح، وتم فتح القسطنطينية عام 1453.
إلا أن هذا الحدث كان بداية للنهضة الأوروبية، فجميع العلماء والمفكرين والفلاسفة هربوا في أيام حصار القسطنطينية، الذي استمر لأسابيع، إلى إمارات ودول أوروبا الغربية، وهناك بدأوا في تأسيس نهضة ثقافية وعلمية، بينما افتقرت إسطنبول، أو إسلامبول، وهو الاسم الذي أطلقه العثمانيون على العاصمة الجديدة (بدل القسطنطينية)، وبعد حكم 600 عام، من حكم الإمارة إلى حكم الإمبراطورية (1242 – 1923)، لم تتمكن الدولة العثمانية، على الرغم من اجتياحها لأوروبا، ووصولها حتى أسوار فيينا، ووقوف زحفها هناك، من النهضة والالتحاق بالتقدم الأوروبي، إنما ظلت إمبراطورية دينية، يحكمها السلطان وشيخ الإسلام حتى انهيارها في الحرب العالمية الأولى، وظهور الدول الوطنية، وبنهايتها انتهى عصر الإمبراطوريات.
خلال الحكم العثماني الإمبراطوري (1923-1453) توسعت إلى الشرق والغرب، فاحتلت العراق، وبدا الصراع والحروب المتواترة مع الصفويين، وكانت بغداد ساحة لهذا النزاع، وقد ورث العراق الخلاف المذهبي العقيم، بين شيعية صفوية وسنية عثمانية، مع أن أصل القومين واحد، فالصفويون أيضا كانوا أتراكا، ولما توسعوا وسيطروا على الإمارات المتناثرة على الساحة الإيرانية قدّموا أنفسهم كفرس وكشيعة. إلا أن الغريب في الأمر أن الصوفية الشيعية كانت وراء قوة الدولتين، فالعثمانيون اتخذوا من الطريقة الصوفية البكتاشية الشيعية عقيدة لهم مع البقاء على المذهب السني، فيما الطريقة الصفوية، وهي سُنية بالأساس اتخذت التشيع عقيدة لها وتحوّلت إلى المذهب الإمامي الجعفري، فظهر النزاع وأشعلت الحروب ظاهريا على أنها بين شيعة وسنة، والحقيقة هي حروب سياسية لغاية توسع النفوذ.
ظلت الدولة أو الإمبراطورية العثمانية تتناوب مع الدولة الصفوية على حكم العراق، وتنفرد بحكم الشام ومصر واليونان وبلغاريا وما بعدها من دول أوروبا الشرقية، حتى دبّ الضعف بظهور ولاة أقوياء انفصلوا بحكم ولاياتها، مثل محمد علي باشا، الذي أسس الدولة المصرية الحديثة بعيدا عن العثمانيين، مع البقاء على صلات معهم، وفي المقابل حاول داود باشا والي العراق القوي أن ينتهج نهج والي مصر، لكنه لم يستطع ذلك، وانتهى معزولا عن الولاية. هذا، وكانت الإمبراطورية العثمانية تعيش على الضريبة التي تُجبى من الولايات التابعة لها، مفوضة أمرها إلى الولاة وهم بدورهم يفوضون أمر المناطق لشيوخ العشائر ووجهاء المناطق، والأهم هو وصول الضريبة إلى السلطان، الذي لم يستطع إعلان نفسه خليفة إلا في عهد متأخر وهو عهد السلطان القوي والأخير؛ عبدالحميد، والسبب أن العثمانيين ليسوا من العرب ولا من قريش والخلافة جعلها الحديث النبوي في قريش، وهو الذي عزله انقلاب 1908 وقيام حكم العسكر، وانتهى الدور الديني، وما هي إلا عشر سنوات وينتهي أمر الخلافة، حيث الحرب العالمية الأولى.
لم تعش ولايات الدولة العثمانية إلا من أجل عاصمة السلطان؛ إسلامبول، ورعايا السلطنة والذين يسمون بالعثمانيين، حيث الجنسية العثمانية، يساقون إلى حروب السلطان، عبر حملات سيئة الصيت “السفربرلك” أي النفير العام، حيث المجند لا يعود إلى بلاده، ويرمى على حدود السلطنة المترامية الأطراف، بعد استخدامه وقودا في الغزوات وإطفاء الثورات.
استمرت هذه النفسية العثمانية في الدولة الحديثة، التي أسسها الضابط مصطفى كمال (أتاتورك)، أي أب الأتراك، وقد نجح في سحب أنظار الأجيال العثمانية من الثقافة الدينية الفقهية، التي كانت حجر الزاوية في السلطنة، وذلك بتغيير الأبجدية التركية، من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني، وبهذا حجر على تراث فقهي وتفسيري، وديني بشكل عام، بينما كان كتاب البخاري يُدرس، حتى في البواخر على المسافرين، فالدولة تعتمد في وجودها على القيمة الدينية، بل ورابطتها مع ولاياتها، المختلفة القوميات واللغات، هي الرابطة الإسلامية.
كانت محاولات الدولة التركية الحديثة الاحتفاظ بالولايات العثمانية، على أساس أنها ملك تركي وليس محددا بوجود الخلافة، فقد استماتت لضم الموصل العراقية إليها، وانتهى الأمر بقرار دولي نتج عن استفتاء في المنطقة، انحاز به أكراد العراق للدولة الوطنية العراقية، بينما استمرت الدولة العثمانية بالسيطرة على لواء الإسكندرونة، وديار بكر، بل عمدت إلى التعامل مع شعوب الدول الوطنية، التي كانت تحت السيطرة العثمانية، على أنها تابعة لها، وقد تكرس ذلك بشكل فج في عهد حكم حزب “العدالة والتنمية”، الإخواني بزعامة رجب طيب أردوغان، فهو بين حين وآخر، وبرغبة في إعادة التاج العثماني، والذي من مظاهره إعادة الحرس العثماني إلى قصره الرئاسي، يُهدد بذلك التاريخ، وكأن هيمنة أربعة قرون على المنطقة لم تكفه.
تركيا الإخوانية تتصرف بمنطق الخلافة لا بمنطق الدولة، مثلما تتصرف إيران وفق ولاية الفقيه فكلا النموذجين يعبران عن الحاكمية الإلهية
كذلك فإن السياسة التركية تعتبر الوجود التركماني، خارج تركيا، هو مناطق نفوذ لها، لذا بين حين وآخر تهدد باحتلال كركوك، لوجود التركمان هناك، بمعنى أن الروح التوسعية لها دوافع تاريخية في ذهن القادة الأتراك، وبهذا تصرفوا، بماء دجلة والفرات، على أنه يسيل ويقف بأمر منهم، بينما المواثيق الدولية تؤكد أن مياه الأنهار ملك الدول المتشاطئة، وليس دول منابعها. ما زال الشعور العثماني يراود أردوغان، على وجه الخصوص، لأنه إسلامي إخواني، وهؤلاء يعتبرون الخلافة هي الأصل، وليس الدولة الوطنية، فكيف إذا كان أردوغان يتحرك بدافع عثماني يجمع بين القومية كتركي والدينية كمسلم.
كانت الغزوة التركية (العثمانية) الأخيرة للأراضي السورية واحدة من ثقافة الخلافة، ولا يتعلق الأمر بالقوة العسكرية التركية، فهذا لا يكفي لهتك حدود الدول، إنما مع عقيدة أن هذه الدول ما هي إلا ولايات لإسطنبول، وكأن الزمن لم يتغير منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية (1918 ثم انتهائها 1923). كان العذر تأمين الحدود التركية، والقضاء على التمرد الكُردي، من دون الإيفاء بالوعود التي ضربها أردوغان نفسه لإعطاء الحقّ القومي لملايين الأكراد، الذين يسكنون مناطقهم قبل الأتراك العثمانيين، والذين تقدمت الإشارة إلى وصولهم بغزوات وحروب وتملكوا هذه المنطقة.
إن هذا الشعور القومي والديني، شعور بأن تركيا إمبراطورية وليست دولة لها حدود جغرافية، انعكس على الفرد التركي، ليتعامل بروح استعلائية مع بقية القوميات.
ففي ضميره أن العراق والشام ما هما إلا من ولايات الخلافة، التي ورثتها الدولة التركية. ما نراه أن تركيا لم يوقفها على ضم تلك البلدان، التي تعتبرها تركة عثمانية، إلا عدم وجود القوة الكافية في زمن وجود تلك الدول ضمن هيئة الأمم المتحدة، وعدم وجود ظرف دولي مناسب لذلك، ولهذا ترى السلطان العثماني الجديد (أردوغان سلطان المسلمين حسب وصف يوسف القرضاوي له)، قد انحنى للموقف الأميركي، وقبل وقف عمليات الغزو، بعد تهديد الرئيس الأميركي ترامب بتدمير الاقتصاد التركي.
على العموم، تتصرف تركيا الإخوانية بمنطق الخلافة لا منطق الدولة، مثلما تتصرف إيران ولاية الفقيه بمنطق الثورة لا منطق الدولة، مع الدول المجاورة أو البعيدة، التي تجد فيها قاعدة نفوذ، فكلاهما النموذج الإخواني التركي والنموذج الولائي الإيراني، يعبران عن الحاكمية الإلهية، والتي لا تحدّها حدود جغرافية، وكلاهما يستندان إلى ثقافة الغزو الإمبراطوري، هذا عثماني وذاك صفوي.
العرب